وليد الشيحي يكتب: قواعد العشق الأربعون.. بين النص والعرض

ركن القراء

الدكتور وليد الشيحي
الدكتور وليد الشيحي


بصحبة الصديق العزيز الدكتور إيهاب المقراني شاهدت  العرض المسرحي المهم قواعد العشق الأربعون، على مسرح السلام بالقصر العيني، وهذه مجموعة مقالات قصيرة من وحي هذا العرض. هذا أولها..

(1/1) تعد مسرحية (قواعد العشق الأربعون) من المسرحيات المتميزة التي يقدمها البيت الفني للمسرح موسم 2017م على مسرح السلام من إخراج الصديق المبدع عادل حسان، وهي من المسرحيات التي تقدم رؤية تعتمد على نص غير مقدم للمسرح بالأساس فهو نص روائي مهم للكاتبة التركية (إليف شافاق) يحمل الاسم نفسه قواعد العشق الأربعون، توظف فيه الروائية تقنية استدعاء الشخصيات التراثية، هذه التقنية التي تجعل النص داخلا تحت نطاق التجريب في الرواية، تستدعي الروائية أحداثا دارت بين شخوص عاشت بالقرن الثالث عشر الميلادي في البلاد الإسلامية، وحاولت أن تسقط الأحداث التراثية على واقعنا المعاصر، من منطلق الاعتماد على وجود جوانب اتفاق واضحة بين العصر التراثي المستدعى وعصرنا الحالي الذي سادت فيه الصراعات الدينية والمذهبية وعدم قبول الآخر ومعاداته لمجرد الاختلاف العقدي أو الفكري، أو حتى وجهة النظر حول قضية من القضايا.

توظف (شافاق) في الرواية تقنية فنية تقوم على مبدأ القص داخل القص أو الحدث داخل الحدث، تراوح فيه بين واقعها الذي وصلت به الرتابة وبرود العواطف حد الملل مما أكسبها تعاسة انعكست على أسرتها، وذلك من جراء فقد الرؤية الدقيقة العميقة لمضمون (الحب) وبين ماض قامت فيه علاقة روحية بين جلال الدين الرومي العالم الفقيه الحنفي الشهير والدرويش (شمس الدين التبريزي) داعية (العشق الإلهي) والتي ينتقل على إثرها الرومي من عالم دين رصين إلى صوفي رقيق القلب يملأ العشق الإلهي قلبه، مما يحوله إلى شاعر حب وداعية عشق إلهي، عشق يقوم على أساس تخلية القلب من الكراهية والبغضاء وتحليته بالحب الصافي النقي الذي لا يفرق بين إنسان وآخر ولا يميز بين البشر تحت أي ظرف، فيخلع عباءة العالم ويرتدي عباءة الصوفي العاشق ومن ثم يصبح قادرا على معرفة الله وعشقه وفق (قواعد العشق ... الأربعين) التي وضعها التبريزي كي تكون نبراسا يهدي السالكين طريق الله، فهو يوقن تمام اليقين أن الإنسان لن يصل إلى محبة الله حقيقة إلا بمحبة خلقه جميعا بلا تمييز.

لم تأت (المسرحية) صورة مطابقة للرواية أو تمثل محاكاة باهتة لها، فقد توفر عليها مجموعة من المبدعين الذين أعملوا أقلامهم لتجهيز نص الرواية وتقديمه في صورة عرض مسرحي، مما يطلق عليه بالمصطلحات المسرحية عملية (تدريم) العمل الروائي، وقد قادت (رشا عبد المنعم) فريقها باقتدار بوصفها (دراماتورج) هذا العمل، وعلى الرغم من أن مصطلح (الدراماتورج) قد نُحت في المسرح العالمي قبل سنوات طويلة تعود لمنتصف القرن الثامن عشر حيث يرد المصطلح عن (ليسنج) الذي يحدد مهام الدراماتورج ودوره في العمل المسرحي فإن المصطلح لم يشع في مسرحنا المصري والعربي بالتالي إلا منذ فترة قصيرة، وتحتاج عملية (تدريم) النص غير المسرحي ـ حتى يصبح نصا مسرحيا صالحا للعرض على خشبة المسرح ـ إلى مهارة خاصة فيصبح كمن يمسك بمبضع الجراح لإجراء جراحة دقيقة تفيد الجسد ولا تضره بإزالة أجزاء مفيدة منه، ولا يمكن لهذه المهارة أن تكتمل إلا بالإلمام بما حول مثل هذه الأعمال التاريخية من معارف ومعلومات متعددة تاريخية وحضارية وثقافية واجتماعية وما دار في وقتها من قضايا وما حدث من صراعات ونوعيتها وأسبابها وما آلت إليه، كما ينبغي أن يتميز الدراماتورج بدقة في الملاحظة واتساع في الأفق وغيرها من السمات المهمة لعملية التدريم، وهو ما ظهر بالفعل بشكل لافت في عملية تدريم رواية (قواعد العشق الأربعون) في استخلاص الفكرة العامة فيها، والمضامين الأساسية المقدمة، فالمتأمل الفاحص يحس بقدرة كبيرة على خلق جو الحدث التراثي من خلال إعادة صياغة أحداث تاريخية محددة، ومهارة في استخلاص الحدث الأهم في الرواية وهو علاقة شمس التبريزي بجلال الدين الرومي متنازلة عن فكرة الرواية الأصلية لـ(إليف شافاق) في الربط بين (إيلا) و(عزيز) من جهة وجلال وشمس من أخرى، وإن كان يمكن عد هذا التنازل من أحد أوجهه قصورا في إبراز فكرة تشابه الحدث القديم والجديد، مما أفقد المسرحية جانبا مهما من جوانب تأثيرها في المشاهد، فلا أدري إن كان ينبغي إبراز المراوحة بين الماضي والحاضر وعدم إغفاله كونه المضمون الأساسي المستخلص من العمل، لكنه على كل حال اختيار دراماتورج العمل وفريق الكتابة الذي ينبغي أن يحترم على كل حال مادام يصل للهدف من أي طريق كان.

 لكن عملية التدريم تقل جودتها وحرفيتها في بعض مواطن العمل التي يمكن فيها ملاحظة افتقاد العمق المطلوب أحيانا وسطحية الرؤية أحيانا أخرى، مما حال دون أن تبدو شخصية (شمس) جديرة بأن تكون مؤثرة فيمن حولها من شخصيات للحد الذي يوصلهم لتغيير حياتهم من النقيض للنقيض كما تبرز أحداث المسرحية، فلم يتمكن النص المسرحي من أن يتوقف بتؤده أمام بعض الأحداث الواردة في المسرحية تؤهل (شمس) ليكون محورا تدور في فلكه بقية شخوص المسرحية، مما قد يفقد معه المشاهد اقنتاعه بالتطور الهادر الحادث لشخصية كل من (كيميا) و(ورد) مثلا لمجرد مروره بهما مرورا متعجلا، فبدا الأمر وكأنه يماثل فعل السحر الذي يمارسه شمس لأسر الشخوص وقد أصاب كليهما، والأمر في حقيقته ليس كذلك فالبغي (ورد) تحتاج لمعالجة أكثر بكثير مما تم في العرض المسرحي من (شمس) حتى تتطور شخصيتها وتتحول هذا التحول الكبير، كذلك الجارية (كيميا) التي أنساها مجرد لقاؤها بـ(شمس) حبها (علاء) وحبه لها ولم تعبأ به دون إبراز ما يسوغ هذا التحول كان من نتائجه أن يتحول (علاء) لشخص عدواني مستعد بقتل شمس.

كما أنه من مظاهر الوقوف المتعجل أمام بعض المشاهد المسرحية مشهد الحوار الدائر بين (شمس) والشيخ الفقيه الذي يجسده (هشام علي) فلربما كان هذا المشهد يحتاج وقفة متريثة بعض الشيء تظهر بدقة اختلاف التفكير ووجهة النظر بينهما مما كان سببا في حنق الفقيه وغضبه على (شمس) الذي تمكن من خلال كلامه أن يجعل تلامذة الشيخ ينفضون من حوله بعد سماع إجابته عن السؤال، والحق أن ما يسوغ ضرورة الوقفة المتأنية أن هذا المشهد كان سببا أساسيا في مقتله؛ ذلك أن قتل شمس كان نتيجة (فتوى) كونه زنديقا مهدر الدم، فكيف بالمشاهد يمر عليه هذا المشهد مرورا متعجلا دون تعمق فيه كونه مشهدا مفصليا، غير أن (هشام علي) مجسد شخصية (الشيخ الفقه) قد أدى هذا المشهد ببراعة محمودة.

كذلك من مظاهر الوقوف المتعجل أمام المشاهد المفصلية التعجل في مشهد (مقتل شمس) الذي لم يستغرق حدوثه على المسرح سوى لحظات على الرغم من أنه يعد من أهم مشاهد المسرحية فكل الأحداث قبله تقود إليه وكل الأحداث بعده تنتج عنه مما يجعله (المشهد الأساس) في المسرحية لاحتوائه على أهم الرسائل التي تريد المسرحية إرسالها للمتلقي، وربما كان الأجدر أن يتم التمهل في هذا المشهد لإبراز الجانب السيء من جوانب الإنسانية الذي تدعو المسرحية لرفضه وتكريهه للقلوب والعقول فتنفر منه وهو جانب الكره الذي يصل بالإنسان لقتل أخيه الإنسان، لكن الذي حدث أنه بمجرد رفض شمس عطايا السلطان مما أثار غضبه يُقتل شمس ويُسحب من المسرح، ويمر الحدث سريعا دون الوقوف أمامه بنظرة فاحصة تعمق الفكرة في ذهن الجمهور.

كما أن ما يؤخذ على تدريم النص المسرحي المقدم عدم القدرة على إذابة (قواعد العشق الأربعين) في أتون الحدث المسرحي، فجاءت بعض القواعد بعيدة عن الحدث الدرامي دخيلة عليه، وكان الأجدر أن تدخل هذه القواعد في نسيج العمل الدرامي، مما يجعلها أكثر تأثيرا في المشاهد الذي اضطر في كثير من فترات العرض المسرحي لاستماع قواعد العشق تتلوها الشخوص غفلا من الحدث وخارجة عنه، مثلما حدث مع (كبير الدراويش) الذي كثيرا ما كان يتلو (القاعدة العشقية) بعيدا عن الحدث.