نجيب شهاب الدين يكتب: فى رثاء طلعت أحمد الشايب

مقالات الرأي

نجيب شهاب الدين
نجيب شهاب الدين


لا يصح الحديث عن طلعت الشايب دون الذهاب إلى جذوره الطيبة، أحمد أفندى الشايب، والدى وأستاذى فى المرحلة الأولى من التعليم، أو التعليم (الإلزامى) حين كان التعليم واجبا وطنيا.. وكان المدرس يتولى أمر الفصل الدراسى من الحصة الأولى إلى الحصة الأخيرة، على مدار السنة الدراسية، كنا نتعلم خلالها مبادئ اللغة العربية ومبادئ الحساب والدين وشيئًا من المعلومات العامة التى كان أحمد أفندى يجود بها من آن لآخر..

يأخذنا بعيدا عن الدرس إلى حكايات دينية أو دنيوية، فهو أول من حدثنا عن حادثة «دنشواى» وعن أول مشانق حديثة عرفتها مصر، وكيف جلبوا أحبال المشانق من لندن التى تحوى مصنعا خاصا لصناعة أحبال المشانق ليتم تعميمها فى سائر مستعمراته، وهو من حكى لنا عن اليوم الأسطورى الذى قام فيه جامع «ستى مدللة، أكبر جوامع القرية، فقد تم فى يوم بليلة، اجتمع فيها أهل القرية وعلى رأسهم البناءون والنجارون والفًعلة،، كان الكل فى ذلك اليوم فًعلة، بدأوا العمل بعد أن صلوا الفجر فى الخلاء، وفى فجر اليوم التالى كانوا يصلون فى الجامع الذى قام ما بين فجرين.

وأظن أن ما ترسب فى وجدانى من حكايات عن ناس قريتى وأحداثها، وضع أساسه أحمد أفندى الشايب.

وإذا قلت إنه إنسان بسيط، أكون وضعته مع سائر البسطاء، فالبساطة سمة من سمات الإنسان المصرى حتى أولئك الذين يفتقدونها يجيدون صناعتها.

ولكن بساطة أحمد أفندى الشايب من نوع خاص، فهى تنبع من فطرته لتذهب مباشرة وتتماهى مع قسمات وجهه، غير مبالية بما كان يتمتع به من مزايا اجتماعية وثقافية وفنية، كانت كتابة الشعر هى إحدى مواهبة، فن الخط العربى، كان موهبة أخرى.

فى الفصل الدراسى يكتب التاريخ الميلادى فى الركن الأعلى من السبورة بالخط الرقعة، وعلى اليسار يكتب التاريخ الهجرى بالخط النسخ، ويتفنن فى تشكيلها ثم يمحو ما كتب ليعيد كتابته على النحو الذى يروقه.

ولا شك أنه كان أشد أثرا فى نفوسنا ممن تتابعوا علينا من بعده، ولا أبالغ، إذا قلت إن أثره فى نفسى كان أشد من أثر أبى، ووجوده فى وجدانى أكبر مما كنت أظن.

عندما هاجرت فى موسم الهجرة إلى أوروبا حين اضطربت أحوال المجتمع على نحو جعل «عاليها واطيها»، وكان نصيب، الهجرة إلى باريس خلف زوجتى وابنتنا، وقد هاجمنى «مرض الوطن» منذ اليوم الأول لوصولى باريس، وعاودتنى على نحو دائم منامات كثيرة، كنت أزور فيها قريتى.

وفى أحد هذه المنامات، ركبت الطائرة من مطار»شارل ديجول» فى باريس وهبطت بنا فى مطار «غيط الدكر» بقريتى «البتانون»، و«غيط الدكر» هو بداية مساحة هائلة من الزرع الأخضر تمتد إلى أن تلتقى بالأفق البعيد.

كان شباك غرفتى يطل عليها، هبط عليها الطائرة بسلام واستقرت جنبا إلى جنب مع البهائم، وكان مطار «غيط العنب» مطارا كامل الأوصاف به خدمات الجمارك والأمن والجوازات، وكل العاملين فيه من خفراء القرية، ويبدو أن أحدهم سألنى عن أوراقى. ولم يكن معى أى أوراق تثبت شخصيتى، أدركنى حسن الشحتانى، وهو فلاح وخفير ووالد أحد زملائى فى «الكُتاب» وأشار لى أن اتبعه وسرت خلفه حتى خرجت من مطار «غيط الدكر»، ووجدت سائر الدُور مفتوحة على مصاريعها، وكذلك الدكاكين والمقاهى، كل الأبواب مشرعة، لكن لا أثر لكائن حى.. حتى رأيت أحمد أفندى الشايب يمشى بخطو وئيد.. وفى يده منشة.

ولأن هذا المنام كان بالألوان الطبيعية فقد رأيت طربوشه الأحمر الزاهى مع ملابسه البيضاء، وما كادت عينى تقع عليه حتى استيقظت من منامى.

وفى هذا الحلم أبلغ دلالة على الوجود الذى حظى به أحمد أفندى الشايب فى وجدانى، كان محبا للغناء، يقتنى فونوغراف وأسطوانات جنبا إلى جنب مع الدوريات الشائعة حينذاك، والتى كان يحرص على متابعتها مثل الكاتب المصرى لطه حسين، والمجلة الجديدة لسلامة موسى، والرسالة لأحمد حسن الزيات، وهى دوريات تطل على شيء من تاريخ الإنسانية وعلى القرن العشرين فى أوروبا والعالم الحديث، حين كانت قريتنا تعيش فى ظلمات عصور المماليك وتركيا..

حتى من حيث الشكل، كانت به، وسامة نجوم هوليوود فى أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، كان مواكبا لتقدم المجتمع الإنسانى، فقد استطاع أن يلغى تلك المسافة الواجبة بينه وبيننا واستطاع بذلك أن ينزع من نفوسنا الإحساس بالخوف والرهبة التى كان يزرعها الآخرون.

وفى ظل هذا الإنسان الطيب، نشأ طلعت الشايب ولم يعقه عائق عن التميز والتفوق وتعامل مع الحياة باعتبارها مباراة دائمة مع التميز والتفوق منذ عرفته فى شعبة الإخوان المسلمين فى القرية فى أوائل الخمسينيات من القرن الماضى حتى رحل فى ندوة بدمياط، كان لنا ذكريات بعضها تراكم فى سنوات الصبا والشباب وبعضها مبعثر، حتى تبعثرنا كل واحد فى ناصية، حتى التقينا بعد سنوات الشتات فى الساحة الثقافية، قدمته لأصدقائى منه باعتباره «ابن خالتى» وهى نسبة جائزة، بعض نساء عائلات الشايب تزوجن من دار «شهاب الدين» والحقيقة أن هذا شعورى دائما ناحيته،»ابن خالتى».

فى فترة الصبا كنا دائما فى ناد واحد وكان يكبرنى بعامين، لكن ثقافته كانت أوسع وأعمق والبركة فى مكتبة عم أحمد، وأيضا فى رهافة إحساسه، فكان يستطيع أن يجد رموز القرية فى أفقر فقرائها وأشدهم تعاسة، ويلتقط لهم صورا فوتوغرافية، لتتصدر مجلة الحائط، التى كان يرأس تحريرها ويرسمها ويزينها، وهو المحرر الأول لها.

ويأخذنى طلعت ووالده المحترم أحمد أفندى إلى العائلة التى يتنسبان إليها « الشايب»، فى كل قرية مصرية عائلات كبيرة، وأخرى صغيرة، وثالثة على هامش المجتمع، والعائلات الكبيرة لها حيثيات اجتماعية، زائفة أو حقيقية.. وفى الناحية الشرقية من قريتى أربع أو خمس عائلات، يعتبرون أنفسهم كبار العائلات فى القرية، ولكل كبير منهم شجرة عائلة تذهب بنسبهم إلى «بنى هاشم» ولهم جامع اسمه «جامع الهواشم»، وعندما تقصصت عن أصل تلك العائلات ومنهم عائلاتى، وجدت أنهم مهاجرون من شمال إفريقيا، وأخذوا من يملكون فى القرية بـ»العصا والنبوت» على حد قول من التقيتهم من الشهود وكبار السن.

لكن عائلة الشايب انتسبت إلى ذكاء ومهارة وشطارة أبنائها، ومن الممكن أن تمثل هذه العائلة قطاعاً من الشعب المصرى، فمنهم فلاحون وعمال ومدرسون وتلاميذ، فى مدارس وجامعات وفنانون ومطربون، ولاعبو كرة وتجار، ومشايخ.

يخطر على بالى المرحوم زهير الشايب، عرفت زهير فى طفولتى، وأنا زميل لأخيه الصغير، خالد، وعرفته فى القاهرة فى الساحة الثقافية فى منتصف الستينيات، وسط حالة استقطاب شديدة تسود الحياة الثقافية، بين من يمثلون الدولة والخارجين عليها بحكم أفكارهم المختلفة، كان المرحوم يوسف السباعى على رأس جماعة الدولة وكنا نحن منتشرين فى المقاهى والمنتديات، وحين التقيت زهير فى مقهى «ريش»، ثم «دار الأدباء» كان ينتمى هو لمجموعة يوسف السباعى، وكنت أنتمى لما عرف وقتها بـ«اليسار».

ورغم هذا الاختلاف كنا إذا التقينا نتنحى جانبنا بعيدا عن اليسار واليمين، أقرب ما نكون إلى «البتانون».

وقد كان مشفقا على من سوء أحوال اليسار من ناحية ومن عسف النظام وبطشه.

لذا عاملنى زهير كما لو كنت خالد أخاه ورغم إشفاقه ونصائحه لى فهو نفسه لم يسلم من بطش النظام وفى نفس الوقت قام مقام مؤسسه حين أخذ على عاتقه ترجمة الموسوعة الفرنسية «وصف مصر» ومات شهيدها.

ومن عائلة الشايب يجب أن نذكر مرسى وحلمى الشايب وهما من تصدرا مشهد عزاء طلعت. وحين أذكرهما لابد أن أذكر أباهما الشيخ عبدالعزيز الشايب وكلمة الشيخ الملتصقة به القريبة من لقب الحاج الذى يطلقونه عليه، فالحجاج باتوا «على قفا من يشيل» أما عمى الشيخ عبد العزيز فقد عرفته عن قرب حين جمعنى به مجلس عرفى لفض نزاع ميراث بين أشقاء وكان صامتًا طوال الجلسة، وهو آخر من يتكلم مقتصرا الكلام فيما هو حل عملى ولكن أحدا من أصحاب المشكلة لم يعجبه رأيه وانسحب فى هدوء داعيًا لهم بالهداية.

وكثيرًا ما شهده بعد صلاة الفجر وهو ينظف حول داره، ثم يأخذ الحارة من أولها إلى آخرها بالكنس، شيخٌ مسن أبيض اللحية هادئ يؤدى واجبه.

ومن العائلة أيضًا عاطف الشايب أحد أصدقاء العمر والذى كان نموذجًا كما يجب أن يكون، كان أستاذًا، إذا أصغى إليه يعرف ويجيب بأدب الإصغاء والاستماع، منهم محمد أفندى الشايب مدرس فى اللغة الفرنسية، ومحمد الشايب الصغير الشهيد الذى ذهب إلى حرب أكتوبر ولم يعد منها سوى حمدى الشايب وزير المواصلات الذى راح شهيد الوظيفة، هى عائلة وارفة الظلال.

وبقى أن أعزى شقيقته السيدة منيرة الشايب وابنته منى، فهما الأشد حزنًا ولم أجد أى كلام يعزيهما فى ترويض أحزانهما وهى حرفة مصرية قديمة اسمها ترويض الأحزان حتى تأخذ مكانًا بعيدا عن مسيرة الحياة.