عبد الناصر سلامة يكتب: الشيشة فى المسلسلات

الفجر الفني

لقاء الخميسي
لقاء الخميسي


الحمد لله، لا أتابع أياً من المسلسلات المعروضة تليفزيونياً خلال شهر رمضان إلا أنى التقيت عددا من الأصدقاء على أحد الكافيهات فى وقت متأخر من ليالى الشهر الكريم، بناء على اتفاق مسبق، وقعت عيناى على إحدى شاشات العرض، شاهدت لقطة من أحد هذه المسلسلات تُمسك فيها الفنانة لقاء الخميسى بالشيشة بما يوحى مثلاً بأنها إكسير الحياة، لا أتحدث هنا عن منظر الخميسى فى شهر رمضان
 
 ولا تعرية ذراعيها تماماً ليظهر ذلك التاتو الغريب، ولا غير ذلك من الممارسات الدخيلة على المجتمع، فقط أتوقف أمام الشيشة، ذلك أن السيجارة قد اختفت من أعمالنا الدرامية أو الفنية عموماً بقرار رسمى، أو هكذا يجب أن يكون، إلا أن البديل كان أكثر سوءاً وهو الشيشة.


الملاحظة الأكثر غرابة هى أنه فى الوقت الذى تتعاطى فيه الفنانة سالفة الذكر الشيشة بطريقة مثيرة، كما لو كانت أمراً جميلاً محبباً إلى النفس، كان هناك العشرات من الفتيات بالكافيه يتعاطين الشيشة بالطريقة نفسها، جميعهن فى مقتبل العمر، العشرينيات أو أقل قليلاً، لا أدرى أين أهاليهن فى هذا الوقت المتأخر من الليل، لن أضيف ملاحظات أخرى تتعلق بأصدقائهن وبعض الممارسات واللغة المستخدمة، وغير ذلك من وباء حل بالمجتمع، إلا أننى مازلت أتوقف أمام شيشة المسلسل.

قبيل بدء الشهر الكريم كان هناك الكثير من الأخبار التى تتحدث عن بدء الهيئة الوطنية للإعلام عملها بمتابعة هذه الدراما قبل عرضها، المجلس الأعلى للإعلام كذلك، قرأنا عن إجازة ٢٢ مسلسلاً فقط، ما أراه فى الشوارع من إعلانات يشير إلى أن المعروض أكثر من ذلك بكثير، إلا أن السؤال الذى يتبادر إلى الذهن هو: هل تم منع السيجارة من الأعمال الدرامية مع استبدالها بالشيشة مثلاً، أم أن الشيشة لها أحكام فنية وفقهية أخرى؟

لأول مرة من خلال لقطة واحدة فى مسلسل أكتشف كم أن التليفزيون ناقل سريع للموضة والأخلاق فى آن واحد، كم أن الممارسات الشخصية للفنانين يتناقلها الشباب بطريقة سريعة ودون تفكير، فهمت للمرة الأولى كيف انتشر التاتو أو الرسومات على أنحاء الجسم فى أوساط الشباب والفتيات، كما تعرية الذراعين، كما ذلك البنطلون صارخ الضيق الذى ترتديه الممثلة، كما طريقة الحديث، كما طريقة الجلوس، كل هذا بمثابة تصدير لتلك الأجيال الضائعة التى لم تعد تجد القدوة فى أى مجال.

قبل عدة أيام كنت أتحدث مع صديق، روى لى حكاية أراها غريبة جداً، قد يراها البعض أمراً طبيعياً، قال إنه صافح ابنه فى عمر الصبا ذات يوم، وبشىء من المداعبة طلب منه تقبيل يده، فرد الابن قائلاً: كيف؟ قال الأب: هكذا، فرد الابن قائلاً: ولماذا؟ أنا لم أفعل ذلك من قبل ولم أشاهد أحداً يفعله، قال الأب: بالتأكيد شاهدته فى الأفلام القديمة، قال الابن: يعنى موضة قديمة، من أيام الأبيض واسود!!، هكذا أصبح تقبيل يد الأب أو الأُم من زمن الأبيض واسود من الأفلام القديمة وليس من أخلاقيات أو أصول التربية، لم تشهد هذه الأجيال الآباء وهم يقبلون يد الأجداد والأعمام والأخوال، والجد والجدة، بل وكل من هو كبير سناً أو مقاماً، لم يشهدوا تقبيل يد عالم الدين، كما لم يشهدوا تقبيل يد المُعلم وقت أن كان مُعلماً ومَعلماً.

أعتقد أنه كان الأحرى بالمسلسلات والأفلام الملونة أن تفعل ذلك، أن تعيد هذه الأخلاقيات، أن تؤكد عليها، هل المشكلة فى المؤلف أم المُخرج، أم المنتج، أم الممثلين، أم فى كل هؤلاء مجتمعين؟ هل المشكلة فى المُشاهد الذى كان يجب عليه أن يقاطع مثل هذه الدراما المدمرة للأسرة والمجتمع فى آن واحد؟ هل المشكلة فى المعلنين الذين كان يجب عليهم أيضاً أن ينتقوا مواقع إعلاناتهم جيداً بما يتوافق مع إرساء قواعد أخلاقية يحتاجها المجتمع، أم أن الأوضاع قد خرجت عن السيطرة ولم يعد النقد مجدياً؟

لا أدرى إلى من نوجه الرسالة، بدايات المجالس الإعلامية، وطنية كانت أو عليا، غير مبشرة، ذلك أنها بدأت ببلاغات للنائب العام فى شأن سياسى، إلا أنها لم تبادر إلى إنقاذ المجتمع من براثن ذلك الدمار، بدا واضحاً أن الأهداف سياسية بحتة دون النظر فى الأخلاق، ذلك أننا نتحدث عن دراما شهر الصيام، ما بالنا بغيره من الشهور، بالتأكيد رُوعى فى الإنتاج حساسية أو حرمة الشهر الكريم، ورغم ذلك خرجت المحصلة النهائية بهذا الشكل القمىء، وهو ما ينبئ بأن القادم أسوأ.

على أى حال، لو أن أمر ممارسات الممثلين فى حياتهم الشخصية، ومن خلال الدراما والفن أيضاً، سوف تتوقف عند هذا الحد المتعلق بحياتهم الخاصة، فلا غبار فى ذلك، وليذهبوا جميعاً إلى الجحيم، أما وأن هذه الممارسات تقتحم على الناس بيوتهم، وتفعل فى الأجيال الناشئة أفاعيلها، فهذه هى المشكلة الحقيقية التى يجب أن نتوقف أمامها، وما هذا الهراء بالكافيهات المنتشرة فى أنحاء المحروسة إلا أكبر إدانة لكل ذلك الإنتاج الفنى، ذلك أنها نِتاج هذا الإنتاج بالدرجة الأولى، إضافة بالطبع إلى قصور الأُسر المُنهكة والتعليم الفاشل.. وعليك العوض يا رب.