محمد حسن عبد الله يكتب: ( جرة عسل ) الحفر في الذاكرة (4)

ركن القراء

محمد حسن عبد الله
محمد حسن عبد الله


يبدو أن الحفر في الذاكرة لا يريد أن "ينفض الجراب" ، بما يعني أن السنوات العشر الأولى من العمر كانت شديدة الحيوية ، عميقة التأثير ، وسأحاول أن أختصر ، مع صعوبة ذلك ، ويمكن أن أقرأ اللوحة من بعيد فأجد أن تلك السنوات المبكرة كان تأثير "الأم" فيها قويا ومباشراً ، فكانت ترسلني في مشاوير لا يخلو بعضها من خطر! لا أدري : هل كان ذلك لثقتها بالطفل الذي تربيه ، أم لأنها تراه زائدا عن الحاجة ، وليس من خطر يتهدد غيابه ! أذكر أن أمي كانت ترسلني – لأدنى سبب – إلى قرية تعيش فيها أختي "هانم" على مبعدة ثلاثة كيلو مترات ، ماشيا على قدميّ لأبلغ أختي كلمة أو خبراً عادياً ، بل كانت ترسلني إلى المنصورة ، لأختي "سميرة" لمثل هذه الأسباب الواهية ، ولمشوار المنصورة ذكريات طريفة جداً ، فقد كان جسمي ضئيلا ، بدرجة ملحوظة (حتى سن البلوغ تقريبا) ومن ثم فقد كنت أركب القطار الفرنساوي من تمي إلى المنصورة مجاناً ، (المسافة نحو عشرين كيلو متر) وكنت أتفنن في الحصول على هذه المجانية ، مع أن (نصف التذكرة) بقرشين ! كنت أصعد إلى عربة القطار ، واختار مكانا خاليا بجوار رجل ، أو سيدة ، وأنزوي ملتصقا به ، أو بها ، أو أكاد ، وكأنني ابنه أو تبعه ، وقد نجحت هذه الحيلة عشرات المرات ، فلم يسألنِ أي (كمساري) عن تذكرتي ، بل قد يحدث أن جاري هو الذي يفتح الحديث معي ، فإذا كان الجار سيدة قالت : 
- إنت ابن مين يا هنايا ؟ 
فأجيب بكلمات قليلة ، ولكن إذا كان الجار رجلا ، فإنه عادة حين أقول له : إنني ابن حسن أبو عبدالله ، فكثيرا ما كان يبتسم في وجهي ، وقد يقول :
- أعرف أبوك .. الكرم والجود . وقد يقول : الرجل المحترم .
وأستقبل هذه العبارات المكبرة لأبي ، مستوعبا معناها العام دون أن أدرك كيف يكون الكرم والجود ، ونحن نعاني في حياتنا اليومية أحيانا بطريقة قاسية ، وبعد أن نضجت قليلا شهدت وسمعت شكوى أمي من حرص أبي على اصطحاب غرباء يصادفهم ليتغدوا عندنا ، وقد يتغدوا بدلنا ، وكان هذا سبب شكوى أمي ، وإن كنت ألاحظ – في تلك السن المبكرة – أنها كانت شكوى سطحية ، بل قد تدل على عكسها : فيها ضرب من المباهاه بهؤلاء الأضياف المجهولين ، الذين انقطعت بهم السبل  - لسبب أو لآخر – فيقدم بيتنا لهم وجبة طعام نحن في حاجة إليها ، أو على الأقل لم تكن فائضة عن حاجتنا !!
من طرائف مشاوير المنصورة (المجانية) في قطار الفرنساوي أن أمي حملتني قطعتي قماش لأوصلها لأختي "سميرة" في المنصورة بقصد تفصيلها فستانين لأختيّ الباقيتين في دارنا (بثينة وصفية) وأفهمتني جيدا أن القطعة الزرقاء لبثينة ، والصفراء لصفية ، وان التفصيلة تكون (سبعات وتمنيات) وكانت هذه آخر موضات القماش المخطط أثناء الحرب العالمية . حفظت المطلوب ، وحملت قطعتي القماش تحت إبطي وتوجهت إلى المحطة ، وركبت القطار على الطريقة المعهودة ، وحين نزلت على رصيف محطة المنصورة ، وكان قريبا مني عسكري (شرطي) التفت إليه ، وأنا متشبث بقطعتي القماش ، وهتفت به : 
- يا عسكري .
- نعم يا شاطر .
- خد بالك مني أحسن حرامي يخطف القماش .
قال بعبارة واضحة : ماتخفش ، امشي ورايا .
ولكني لم أمش وراءه ، بل ظللت أتقدمه بنحو متر أو مترين ، وأتلفت لأطمئن على موقعه مني ، وفي إحدى الالتفاتات ، رأيت ابتسامة طيبة ، تفرش ضوءها على مساحة وجهه المستكين !             
حين وصلنا شارع الشناوي اتجه العسكري نحو المديرية ، وبقيت في مساري ، وعندما كانت المسافة تسمح بالرؤية كنت التفت إليه فأجده لا يزال يرعاني بنظراته الطيبة !!