طارق الشناوي يكتب: عبدالحليم والمعجزة الثالثة!!

الفجر الفني

بوابة الفجر


الحكاية المتداولة التى فجرها بعض ورثة عبدالحليم هى أن العندليب لم يكتف فى حياته بأن يمنحنا تلك القصيدة الرائعة (رسالة من تحت الماء)، ولكنه الآن يقدم لنا قصيدة أكثر روعة (رسالة من تحت الأرض)، وهى فى كلمات محددة، لم يستطع الموت أن يقهر جسد عبدالحليم- الذى احتفلنا أمس بعيد ميلاده الـ87- كلنا من التراب وإلى التراب نعود، عبدالحليم حالة استثنائية فى الموت، كما كان فى الحياة، فلاتزال ملامح عبدالحليم التى تحتفظ بها ذاكرة الملايين كما هى، حتى الخاتم الفضى فى أصبعه فى مكانه لم يتمكن لصوص المقابر أن ينتزعوه.


الحكاية أن المياه الجوفية هاجمت قبل سنوات عددا من المقابر فى حى (البساتين)، حيث يسكن جسد عبدالحليم قبل نحو أربعة عقود من الزمان، كان ينبغى أن يزور عدد من أفراد الأسرة المدفن لنقل الجسد، أقصد طبعا ما تبقى منه، إلى حجرة أخرى فى نفس المقبرة، من شاهدوا تلك اللحظة، ومن بينهم محمد شبانة، ابن شقيق عبدالحليم، أكدوا أن جسده كما هو لا شىء تغير فى ملامحه المحفورة داخلنا، بل أضاف شبانة وصفا أكثر دقة، وهو أن التغيير الوحيد الذى حدث بفعل الزمن أن أحد أظافر قدمه تآكل جزء منها، فقط جزء، لكن الوجه والشعر والعين وباقى جسده الذى لايزال فى الكفن الأبيض لم تستطع عوامل الطبيعة أن تنال منه.


أغلبنا، وأنا مثلكم من عشاق عبدالحليم، لدينا استعداد لا شعورى أن نصدق أو نتمنى أن نصدق كل ما يمنح هذه الشخصية هالة من الشفافية التى تقترب فى بعض ظلالها من المستحيل.


امتلأ النت قبل سنوات بصور لإرهاب عشاق الفن بالعذاب الذى ينتظرهم بعد عمر طويل أو قصير، حيث ينبعث من قبر أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم أصوات مرعبة، وبالطبع يصورون المقبرة وعليها الشاهد الذى يحمل الاسم، ثم ترى نيرانا وتستمع إلى صراخ تؤكد أن الفنان يدفع ثمن ممارسته الغناء، الأصوات التى يقدمونها لنا بمكساج صوتى ردىء هى ما ينتظر أيضا كل من يستمع إليهم، عبدالحليم إما أن تراه قديسا لا يتحلل جسده، أو يتلقى فى القبر عذابه من الثعبان الأقرع، الموتى لا يعودون، بل نحن نذهب إليهم عندما يحين الموعد.


عبدالحليم حافظ ورحيله المبكر عن 47 عاما بالطبع لعب دورا فى ذيوع شائعة قهره لعوامل التحلل، حيث تزداد لا شعوريا مساحة تصديق تلك الخرافات، حليم فى الضمير الجمعى هو فتى الأحلام، وهكذا يحلو الحديث عن سيرته فى عيد ميلاده أو ذكرى رحيله، وتتعدد حكاياته التى يخترعها البعض حتى يكتسب مصداقية عند القراء، وجاءت الذروة أن يتحدى جسد حليم قانون الطبيعة، أنا بالمناسبة لا أتهم أفراد أسرته بترويج شائعة، ولكنى أرى أن فرط الحب هو الذى يشوش الرؤية، فهم شاهدوا صورة له هم الذين اخترعوها فصدقوها.


فى مجتمع محبط صار يضع قلبه ومشاعره وأمنياته وأحلامه مكان عقله، ولهذا من الممكن أن يصدق، بل ويروج لتلك الحكايات. كان الشيخ عبدالحميد كشك دائم السخرية من عبدالحليم حافظ، قائلا إنه حقق معجزتين الأولى فى قصيدة (رسالة من تحت الماء) بقوله (إنى أتنفس تحت الماء)، والثانية فى أغنية (زى الهوا) وهو يردد (ماسك الهوا بإيديه)، فهل نضيف لها نحن معجزة ثالثة (إنى أتنفس تحت الأرض)!!.