"كعك العيد".. مظهر بهجة وعلامة ثقافية من علامات الهوية المصرية

الفجر الفني

أرشيفية
أرشيفية


بقدر ما يشكل "كعك العيد" مظهرا من مظاهر البهجة المصرية في الاحتفال بعيد الفطر فانه يوميء ايضا لهوية المصريين وتراثهم وتاريخهم الثقافي .

 

وفي مصر "ارض الكنانة" تتجلى العلاقة بين الثقافة والغذاء والهوية في تلك الأيام المباركة او التي يصفها التعبير المصري الدارج والعبقري "بالأيام المفترجة" بينما يجمع كعك العيد الذي يعد من اهم ملامح عيد الفطر المبارك ما بين مظاهر البهجة وعلامات الهوية .

 

ومع ان بعض الطروحات تربط بشدة مابين الحقب الطولونية والاخشيدية والفاطمية في مصر وكعك العيد كما تتردد الروايات حول "كعك العيد الذي كان يحشى ايام الأخشيديين بالدنانير الذهبية" فان هناك طروحات ترجع بالكعك الى الأعياد في عصور مصر القديمة وايام الفراعنة كما توضح رسومات وصور على مقابر طيبة ومنف.

 

واذا كانت "حالة الاستنفار" التي عرفتها البيوت المصرية في ايام خلت قبيل عيد الفطر لاعداد كعك العيد قد تراجعت نسبيا قياسا بالماضي فان هذه "الحالة من الاستنفار المبهج" مازالت تشكل مددا لكتابات بمداد الحنين للأيام الخوالي.

 

وهاهي استاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة الدكتورة نيفين مسعد تقول ان الكثيرين منا عندما يستحضرون ذكرى العيد "تأتي على بالهم لمة العائلة والجيران لصناعة الكعك البيتي والبسكويت ولم تشذ اسرتي التي تنتمي للطبقة الوسطى عن هذا التقليد في شيء".

 

وفي طرح بجريدة الشروق تستعيد الدكتورة نيفين مسعد وقائع "استئجار الصاجات من الفرن المواجه لبيت اسرتها في حي المنيل" مضيفة :"كان نقش الكعك طقسا مبهجا لنا نحن الأطفال كل البهجة.كنا نزاحم الكبار حين يفترشون ارض المطبخ وننهال عليهم ب اسئلتنا وايضا بطلباتنا".

 

وتقول :"كنا نصر على ان ننقش البسكويت على شكل نجوم او طيور وفي كثير من الأحيان كنا نفسد الصنعة وكانوا يتسامحون معنا. هذه الذكرى موجودة في احدى زوايا الذاكرة لاتبارحها وهي تلح علي حاليا وانا اقف في الطابور في انتظار شراء كيلو من الكعك الجاهز".

 

وتذهب بعض الكتابات التاريخية الى ان المصريين القدامي عرفوا في ايام الفراعنة نحو 100 شكل من نقوش كعك واقراص الأعياد ومن بينها "اللولبي والمخروطي والمستدير والمستطيل".

 

ومع ان التطور افضى لابتكار انواع جديدة من الكعك لم تكن معروفة من قبل وحاول تقليص السعرات الحرارية الضخمة لهذه الحلوى المحببة الا ان نيفين مسعد تؤكد على ان " كعك الستينيات كان الذ ومذاقه كان اطيب والأهم انه كانت بيننا وبينه علاقة حميمة فقد ولد على يدينا وخبز امام اعيننا ولسعت حرارة صاجاته اصابعنا ونحن لانصبر على رزقنا كما يقول لنا الكبار ونتعجل استكشاف كيف تحول الدقيق الى حلوى شهية".

 

"انها روائح العيد تهل علينا بذكرياتها وناسها الذين ذهبوا من سنين طويلة ومازالوا يعيشون فينا كما تقول الدكتورة نيفين مسعد في طرحها المعبق بالشجن والحنين للأيام الخوالي معتبرة ان "العيد الصغير هو العيد الأكثر اثارة لأنه يروي العطش ويرتبط بالحلوى".

 

واذا كان المصريون قد ابدعوا في صناعة الحلوى التي تجاوز عدد انواعها في عصورهم الوسطى 50 نوعا حسب كتابات ودراسات تاريخية فان "سوق الحلاويين" عند "باب زويلة" في قاهرة العصور الوسطى كان يتحدى كل اسواق العالم بمعروضاته من الوان واصناف كعك العيد وتلال الحلوى.

 

وبصورة عفوية وتلقائية يشكل تبادل كعك العيد بين الأسر المصرية نوعا من التواصل الحميم الذي يميز الحياة المصرية ويجمع مابين كل المصريين وهو طقس دال من طقوس الثقافة المصرية وموروثها الحضاري وصورها الذهنية وتجلياتها في واقع الحياة اليومية.

 

والأمر هنا في مصر الخالدة قد يشكل نموذجا هاديا لكاتب غربي مثل الكاتب الايطالي ستيفانو بيني الذي تناول في طرح بعنوان "الطعام والتعايش" الدور الذي ينهض به اعداد الطعام وتبادله احيانا كهدايا بين العائلات المختلفة في تعزيز المناعة المجتمعية وترسيخ بنية المجتمع و"بث الألفة بين كل من يعيشون تحت سماء واحدة في بلد واحد".

 

وفيما يقول ستيفانو بيني :"اذا نجحنا في ان نشم رائحة مطبخ الآخرين وان نعرف شيئا عن تراثهم فقد تمضي الأمور على نحو افضل" فالطعام في الثقافة الغربية كما هو في ثقافات عديدة يقترن بقدر من البهجة كما يؤشر كتاب صدر بالانجليزية لكين الابالا وعنوانه"قاريء تاريخ الغذاء:مصادر اساسية" والمؤلف مؤرخ متخصص في تاريخ الغذاء وهو في هذا الكتاب يتطرق طقوس البهجة عندما يجتمع البشر معا لتناول الطعام كما يتحدث عن اتجاهات الثقافات المختلفة حيال الغذاء.

 

ويوضح كين البالا ان "الغذاء يساعد في تعريف الهوية" فيما التاريخ الغذائي لمجموعة انسانية ما يكشف الكثير عن ثقافتها ويتوغل من منظور تاريخي ثقافي في الوان الطعام لأرض الرافدين ومصر القديمة والاغريق والرومان وانجلترا في العصر الفيكتوري محتفلا بحب الانسان للطعام عبر الزمان والمكان.

 

ولاريب ان كعك العيد كمظهر من مظاهر البهجة يعبر عن احتفال المصريين بالحياة بقدر مايشكل ظاهرة اجتماعية-ثقافية تضرب في اعماق التاريخ وتعبر عن الهوية في تجلياتها الثقافية الغذائية.

 

واذ تفيد بيانات منشورة ان نسبة انفاق الأسرة المصرية على الغذاء يصل لنحو 36 بالمائة من اجمالي دخلها.

 

ولئن احتفظ متحف الفن الاسلامي في القاهرة بقوالب لصناعة الكعك تحمل عبارات دالة مثل :"كل هنيئا واشكر" او "كل واشكر مولاك" ففي الموروث الشعبي المصري يكتسب رغيف الخبز اهمية كبيرة ويقترن ايضا "بالمؤاكلة بين الأصدقاء والخلان" اومفهوم "العيش والملح" الذي يحفظه الأوفياء ويجحده الذين لايقيمون للأخلاق الكريمة وزنا او اعتبارا .

 

وللعالم والفقيه المصري الكبير جلال الدين السيوطي كتاب بالغ الطرافة عنوانه " منهل اللطايف في الكنافة والقطايف", وهذا الكتاب وضعه العالم المصري الكبير الذي توفي في القاهرة في شهر اكتوبر عام 1505 وكان نموذجا للمثقف الموسوعي في زمنه في سياق شكوى عامة للمصريين من ارتفاع الأسعار ومن بينها الحلوى .

 

وهكذا قال جلال الدين السيوطي ضمن ماقاله عن الكنافة والقطايف في هذا الكتاب رافعا شكوى المصريين للمحتسب :"لاعيب فيها غير ان محبها يبدد فيها ماله ويضيع" ويزيد القول:"ماقاضيا بالله محتسبا عسى ترخص لنا الحلوى نطيب ونرتع"!!.

 

 

ولئن افادت بيانات لمنظمة التنمية الصناعية العالمية "اليونيدو" ان مصر تحتل المركز التاسع في قائمة اكثر دول العالم تصديرا للتمور رغم انها تحتل المركز الأول بقائمة الدول المنتجة فمن الطريف ان تنشر صحيفة نيويورك تايمز موضوعا عن التمر كغذاء رمضاني اصيل وان تتحدث جوليا موسكين في هذا الموضوع عن "التمر بالكريم والفستق المبشور" وتستعرض انهماك ربات البيوت العربية في افانين المأكولات الرمضانية.

 

وتقول الصحيفة الأمريكية الشهيرة ان التمر علامة رمضانية اصيلة كما انه يوحد غذائيا كل المسلمين مهما تناءت اماكن اقامتهم في الدنيا الواسعة مشيرة الى ان النخيل وهو مصدر البلح يرمز ثقافيا للحفاوة والكرم والطمأنينة والسلام.

 

والتمر يدخل ايضا في صناعة كعك العيد فيما توضح كتابات تاريخية من بينها كتاب "لغز الحضارة المصرية" للدكتور سيد كريم ان المصريين القدماء كانوا يقومون بحشو كعك اعيادهم بالتمر المجفف "العجوة" كما ان عسل النحل كان يخلط بالسمن ويقلب على النار ويضاف للدقيق ويقلب حتى يتحول الى عجين يسهل تشكيله على اي نحو.

 

ووفقا لأرقام معلنة يقدر عدد النخيل في مصر بنحو 15 مليون نخلة ويصل انتاجها من التمور الى نحو مليون ونصف المليون طن سنويا فيما تنتشر زراعة النخيل في ربوع ارض الكنانة من السلوم حتى اسوان ناهيك عن ارض الفيروز في سيناء وواحة سيوة ومحافظة الدقهلية وهي من المحافظات المصرية التي تنتشر فيها زراعة النخيل بكثافة عالية.

 

ولفتت النيويورك تايمز الى ان المسلمين في كل انحاء العالم يحرصون على بدء افطارهم بتناول التمر تأسيا واقتداء بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فيما تتفنن بعض الفنادق والمطاعم التي يرتادها المسلمون في الغرب في تقديم التمر بصيغ متنوعة وحداثية غير ان المبدأ الرئيس يبقى :"لاافطار بلا تمر" كما انه يحق القول في الحالة المصرية :"لاعيد بلا كعك".

 

واذ يسعى بعض مشاهير الطهاة العرب لتقديم الأطباق التقليدية في قالب عصري وانتقل بعضهم لكبريات مدن الغرب مثل لندن ونيويورك وباريس وباتوا معروفين في اوساط "ذواقة الأكل" حتى باتوا في الواقع "سفراء للأطباق العربية في الغرب" كما يتجلى على سبيل المثال في تناول صحيفة نيويورك تايمز للمأكولات الرمضانية فقد يشكل "كعك العيد" كما ابدع فيه المصريون جسرا اخرا للتواصل بين الثقافات الغذائية للشرق والغرب.

 

والكعك علامة ثقافية دالة على الهوية المصرية واحتفال المصريين بعيد الفطر كما هو الحال في احتفالات عيد الميلاد وبداية العام الجديد في الغرب حيث تشكل "الديوك الرومي" عنصرا لاغنى عنه في موائد تلك الاحتفالات كما انها تدخل بعمق في الموروث الشعبي لثقافات الغرب وخاصة في الولايات المتحدة.

 

ولعل كعك العيد في مصر يلهم بمزيد من الكتابات الثقافية والكتب كما فعلت كاتبة وقاصة من "ابناء العم سام" عندما اصدرت كتابا عن " اجنحة الديوك المشوية !!..انها كريستين ارنيت التي أصدرت مؤخرا كتابا عنوانه : " كيف تأكل اجنحة الدجاج" !.

 

وهو كتاب ليس من كتب المطبخ بالمعنى التقليدي وانما يجمع بطرافة مابين النظرة العلمية والمعالجة الثقافية وحتى الذكريات والتحيزات والميول الغذائية ومن يقرأه سيعرف قبل ان يلتهم جناح دجاجة كل شيء عن هذا الجناح الشهي ومفصلاته وموصلاته واوتاره التي تصافح غضاريفه وعناق اللحم والعضم !.

 

والمؤلفة كريستين ارنيت وهي قاصة وكاتبة مقالات في الصحافة الأمريكية تتحدث في كتابها عن علاقة حب-كراهية تربطها مع هذه الأجنحة المشوية وتحكي عن مطاعمها المفضلة في اجنحة الدجاج وذكرياتها عبر السنين وافضل الأطباق والمشهيات المصاحبة من وجهة نظرها وحسب ذوقها او ثقافتها الغذائية.

 

أما الثقافة الغذائية المصرية فتولي "كعك العيد" مكانة عزيزة في الذاكرة والواقع معا..فرحة تنادي اهلها بعد صيام الشهر الفضيل وحكايات حميمة لشعب كريم..انه "كعك العيد" الذي يوقظ الذاكرة ويجمع مابين التاريخ واللحظة المصرية التي ترفع الحلم سقفا وتعانق الحياة لونا لونا !.