فاطمة رشدى.. "سارة برنار الشرق"

الفجر الطبي

فاطمة رشدى
فاطمة رشدى


«سارة برنار الشرق» هكذا أطلق عليها نقاد زمنها، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك ووصفوها بـــ”المعجزة”، أسست فرقة مسرحية، ولم تكن مجرد فرقة وإنما أحد علامات المسرح المصري والعربي، هى ثانى مخرجة سينمائية بعد أم السينما “عزيزة أمير”، قدمت للمسرح العربي 100 مسرحية وللسينما 16 فيلمًا، ومع ذلك ماتت وحيدة دون سؤال أو اهتمام أو تقدير..عن “فاطمة رشدى” نتحدث.

“طلعت يا ما أحلى نورها”

“فاطمة رشدي” من مواليد محافظة الاسكندرية عام 1908، ولدت بين ثلاث شقيقات، رتيبة وإنصاف، عملتا بالتمثيل، أما شقيقتها الكبرى “عزيزة” فكانت تعمل بالفن أيضًا لكن فى مجال الرقص، وهذا يخبرنا بسبب انخراطها فى الفن مبكرًا فى حدود التاسعة أو العاشرة، بل إنها أخبرتنا فى مذكراتها بسبب اَخر وراء موهبتها المتفجرة مبكرًا، حيث ذكرت أنها ورثت مواهبها الفنية من جدتها لأمها “حفيظة هانم” إحدى وصيفات زوجة الخديوي إسماعيل المفضلة، وتقول عنها “قضت جدتى لأمى شطرًا من شبابها تمارس وظيفة “الوصيفة” لزوجة خديوى مصر، فإذا نفسها الحساسة الواعية تتشبع بالفن وتمتص رحيقه فى طريق اللاوعى ثم كانت تشهد مع زوجة الخديوي، الروايات الغربية التى كانت تمثل على مسرح الأوبرا.”

أنصاف_رشدي

كانت والدة “فاطمة” تلازم شقيقتها “إنصاف” فى عملها بمسرح “عطاالله” بالإسكندرية، الذى بحبسب ما أفادت فى مذكراتها لم تكن تتقبله فى بادئ الأمر، ووافقت عليه بسبب الحاجة للعيش، بعد أن توفى والد البنات، فأضحت فى كل ليلة تصطحب طفلتها الصغيرة “فاطمة” للذهاب إلى المسرح مع شقيقتها حتى تطمئن عليها.

صعدت “رشدي” لأول مرة على خشبة مسرح “أمين عطا الله”، بعد أن شاءت الظروف أن يتشاجر مع المطربة “فتحية أحمد”، بسبب إصرارها على تقاضى أجرها كاملًا قبل الصعود إلى المسرح وهو ما رفضه “عطا الله”، وذهب إلى “فاطمة”فى الكواليس، ليعرض عليها أن تصعد إلى المسرح بدلًا من “فتحية” مقابل قطعة شوكولاتة فاخرة، وذلك بعد أن سمعها عدة مرات فى الكواليس تدندن أغنية “طلعت يا محلى نورها”.

صعدت “فاطمة” وغنت وبين الحضور “سيد درويش”، الذى أتى إلى الإسكندرية يبحث عن فتيات لمشاركته العمل فى فرقته بالقاهرة، ليلتها أعجب بصوتها، وبادر بدعوتها هى ووالدتها للقدوم معه، حيث يعكف هو والمخرج عزيز عيد، على تقديم رواية “العشرة الطيبة”، إلا أن الأم ترددت فى البداية، بسبب ضيق الحال، فأعطاها “درويش” حينها 10 جنيهات حتى تقبل عرضه، وعندها تلألأ الأمل داخل “فاطمة” وشعرت باقترابها من تحقيق حلمها وستصبح نجمة.

بهلوانة فى سيرك

لم تأخذ الأم بناتها وتنتقل إلى القاهرة إلا عندما انفضت فرقة “أمين عطا الله”، ولم تكن القاهرة الصاخبة حيث الفرق الفنية الكبرى، جميلة كما ينبغى عندما وصلن إليها، فقد وجدن المسرح الذى تعمل به فرقة رواية “العشرة الطيبة” مغلقًا، ولما سألوا عنه قيل لهم “أن الفرقة تم حلها”، فذهبن إلى مسرح “كشكش” الريحانى لعلهن يجدن “سيد درويش” هناك، لكنه لم يكن موجدًا، لكن الحظ كان معهم، فقابلهم “الريحانى”، وعرض على “فاطمة” وأختها “إنصاف” العمل كومبارس ضمن فرقة “كشكش”، وبالفعل عملتا معه لمدة شهرين ثم تم الاستغناء عنهما.

بعد ذلك توجهت الأسرة الصغيرة، إلى بورسعيد للعمل بفرقة أخرى، ولكنهن فوجئن، بأن التياترو ليس تايترو، بل “سيرك”، وظهرت “فاطمة كبهلوانة، ولما سقطت هى واختها “إنصاف” على المسرح، تم إلقائهما خارج المسرح فى الشارع، عندها لم يتبق أمام الأم سوى أن تعود بابنتيها إلى القاهرة.

وقالت”فاطمة” فى مذكراتها عن هذه الحادثة”عدنا إلى القاهرة بتجربة قاسية لن أنساها.”

المنولوجيست التى رفضت “التحرش”

فى القاهرة عرفت الأسرة، مسارح روض الفرج، التى كانت كثيرة وقتذاك، وانتهى بها الأمر إلى العمل “منولوجيست” فى تياترو البيسفور، ولكنها لم تستطع الاستمرار فى العمل هناك كثيرًا بسبب ما كانت تتعرض له من تحرش من قبل المترددين على التياترو، فاَثرت ترك المكان.

على مقهى راديوم بعماد الدين، حيث يتردد عليه أهل الفن والأدب، تعرفت على الأديب الكبير “محمود تيمور”، والذى اَمن بها وبموهبتها وعطف عليها وشجعها، وعندما قدمها للمخرج “عزيز عيد” قال”أقدم لك يا أستاذ بنت صغيرة..سيكون لها شأن فى المستقبل..إنها ذكية ومجنونة بالتمثيل.”

فاَمن بها “عيد”، وصدق تكهنات “تيمور”، فاختارها لتمثل معه، وبمرور الوقت نشأت بينهما قصة حب كبيرة انتهت بالزواج.

النجاة من محاولة اغتصاب فى الطفولة

ذات يوم، وقبل دخولها إلى المسرح الاستعراضي حيث تعمل، فوجئت برجل كبير فى السن، فى زي أشبه بزى أعيان أهل الريف، يناديها باسمها ويدعوها بكلمات رقيقة وحنونة، وظل ينتظرها يوميًا ويعطف عليها، حتى صدقت أنه يمكن أن يعوضها عن حنان أبيها الذى تفتقده، فقد أفرط فى عطفه عليها، حتى بلغ حد شراء ملابس ثمينة لها، وعزيمة عشاء فاخرة، إلا أنها فوجئت به فى هذه الليلة وأثناء ركوبهما الحنطور، يضمها إليه بقوة ويقبلها عنوة محاولًا الاعتداء عليها، لكنها تمكنت من الهروب منه ونجت بنفسها من هذا “المجنون”، لكن هذه الحادثة الأليمة طبعت بذاكرتها حتى اَخر العمر.

قصتها مع عزيز عيد

يعتبر “عزيز عيد” هو أول من مد إليه يد العون، لتدخل عالم الفن، علمها القراءة والكتابة، علمها التمثيل، وعندما أقنع الفنان يوسف وهبي، بالعودة من إيطاليا وتكوين فرقة “مسرح رمسيس”، عرض عليها الانضمام إليهم وتقديم بعض الأدوار الصغيرة التى تلائم عمرها حينذاك، وافقت على الفور وتحكى عن هذه الفترة فى مذكراتها وتقول “فى مسرح رمسيس رأيت العجائب، أشياء جديدة علي، ستائر ومناظر وأضواء وشاهدت “عزيز عيد” الرجل البسيط في وسط هذا كله متوجًا، وأستطيع أن أقول: إن عزيز عيد هو الأستاذ الذي أرسى قواعد الفن المسرحي على أساس صحيح.”

من ناحية أخرى، أحضر لها “عيد” مدرسًا للغة العربية ليعلمها القراءة والكتابة ومدرسًا من الأزهر ليعلمها قراءة القرآن الكريم وآخر لكي يعلمها فقه الأدب الحديث والقديم وآخر لكي يعطيها دروسًا في الرسم ولم يكن يكتفي بكل هؤلاء بل كان يحرص على أن يجلس عدة ساعات يوميًا معها لكي يقوم بتعليمها طرق الأداء التمثيلي المختلفة فكان يقوم بتدريبها على مشاهد من روايات عالمية مثل غادة الكاميليا، وكان لذكاء فاطمة رشدي أثره الواضح في سرعة الاستجابة والتحصيل فكان لتقدمها الفني أثره الواضح في اقتناع الفنان “يوسف وهبي” صاحب فرقة رمسيس بها، وبدأ ينظر لها، كونها خليفة روز اليوسف في الفرقة بعد أن تركتها إثر خلاف بينها وبين “وهبي”.

فى ذلك الحين، بدأت تتسرب بعض المشاعر داخلها تجاه “عزيز عيد”، بينما كان هو قد هواها مبكرًا، على الرغم من فارق السن بينهما، حتى أعلن لها أنه على كامل الاستعداد أن يشهر إسلامه حتى يتزوجها.

وتقول “فاطمة” فى مذكراتها: أخذت أحلل مشاعري لأحاول أن أفهم سر انجذابي إلى هذا الرجل ولعل السبب كان حرماني من الحنان، حنان الأبوة بالذات فلم يكن هناك أي رجل في حياتي منذ طفولتي.. منذ تفتحت عيناي في هذه الدنيا لم أر بجواري أبًا احتمي بحنانه ولا أخًا اعتمد عليه ويمسك بيدي الصغيرة وأنا أخطو خطواتي الأولى في دروب الحياة.

لقب “سارة برنار الشرق”

تدرجت فى سلم النجومية، وأتيح لها فرصة القيام بأدوار بطولة فى بعض المسرحيات مثل (الذئاب- الصحراء- القناع الازرق- الحرية- الشرف- النزوات- ليلة الدخلة).

وفى عام 1929 زرات “فاطمة رشدى” العراق مع فرقتها التى أسستها مع “عزيز عيد” عقب انفصالهما عن “رمسيس”، وقد أثرث زيارتها على المسرح العراقى تأثيرًا كبيرًا حيث التحق عميد المسرح العراقى
“حقى شلبي” بالفرقة.

عندما قدمت مسرحية (النسر الصغير) للمؤلف رادمون روستان، التى قدمتها الفنانة العالمية سارة برنار، نالت اللقب “سارة برنار الشرق”.

” لم تغب عنى طويلًا، هدية أمير الشعراء، وكانت هدية عظيمة، وعظيمة جدًا، كانت تحفته العظيمة، مسرحية “مصرع كليوباترا”.. أول مسرحية بالشعر العربي، وكانت حدثًا كانت معجزة ومثلت دور كليوباترا أحد أدوار عمرى الخالدة.”

الدخول إلى عالم السينما

انفصلت “فاطمة رشدى” عن “عزيز عيد” والد ابنتها الوحيدة “عزيزة”، بسبب غيرته الشديدة عليها وكونت فرقة مسرحية بعيدة عنه.

تزوجت فيما بعد من المخرج “كمال سليم” الذى أسند إليها البطولة فى فيلم “العزيمة” وهو من أشهر أدوارها ولكنها لم تحقق نفس النجاح الذى حققته فى المسرح، وحدث الطلاق سريعًا.

مسيرة فاطمة رشدي السينمائية، بدأت بفيلم «فاجعة فوق الهرم» عام 1928، وهو فيلم مغامرات صامت لـ «إبراهيم لاما»، ولعب البطولة أمامها بدر لاما ووداد عرف، وبعد ذلك، قررت خوض تجربة الإنتاج، فأنتجت أول أفلامها «تحت ضوء الشمس» من تأليف وإخراج وداد عرف، وحين عرض عليها لم يعجبها وأحرقته وأسقطته من حساباتها، ثم عادت كمخرجة ومؤلفة وبطلة لفيلم «الزواج» أمام محمود المليجي، لتصبح ثانى مخرجة فى مصر والعالم بعد أم السينما “عزيزة أمير”.

ومن ضمن أفلامها التى انتجتها فيلم “الطائشة” و“ثمن السعادة” و”مدينة الفجر” و”الغجرية”.

فى أواخر ستينات القرن الماضي، اعتزلت “فاطمة رشدى” الفن وعاشت فى هدوء بفندق شعبى فى القاهرة، حتى كشفت جريدة الوفد ما تعيشه من معاناة لا تليق وقيمتها الفنية الكبرى، عندها تتدخل الفنان فريد شوقى حتى يتم علاجها على نفقة الدولة، إلا أن “المعجزة” توفيت فى 23 يناير عام 1996 ولم يفارقها العناء ولم تنل التقدير الذى تستحقه.