د. رشا سمير تكتب: هكذا يُباع البشر.. لأعلى سعر

مقالات الرأي



فى زمان أصبحت للخيانة فيه ألف وجه.. وللغدر ألف قصة.. وللابتذال ألف معنى.

فى زمان تحولت فيه القلوب إلى حجر أصم.. ومات نبض المشاعر على أعتاب طرقات المصالح الشخصية.

فى زمان صمت فيه الكروان عن الغناء ليعلو صوت ماكينات الصرافة الآلية.. فلم يعد لأوراق الأشجار حفيف بل أصبح الصوت الوحيد المسموع هو صوت قرقعة كئوس الخمر وهى تعانق غرائز البشر.

فى هذا الزمان لم يكن من الغريب أن تخطف «ليلى» بكل تبجح وأنانية زوج صديقتها الوحيدة (جميلة).. ولم يعد مُستغربا أن تغض أسرة (جميلة) كلها أبصارهم وهم يشاهدون فى صمت ابنتهم الوحيدة تُهان وتنطفئ وتذبل.. بل لم تكن أيضا الصورة التى تخلى فيها الأطباء عن مبادئ مهنة الطب بكل سموها وقدسيتها من أجل الربح المادى والشهرة، صورة استثنائية.

باختصار.. فى هذا الزمان القبيح لم يعد للأخلاق مكان.. وأصبحت المادة هى عنوان كل الأشياء وكل الأفعال.. فأصبح لكل إنسان سعر.. وفى بورصة المال أصبح كل من يريد أن يبيع ضميره يعى جيدا أنه لن يبيعه إلا.. لأعلى سعر!

هذا ما أراد أن يقوله الطبيب الشاعر مدحت العدل فى مسلسله الذى سرق قلوب المشاهدين وسمرهم أمام شاشات التليفزيون، على الرغم من كون القصة دارجة وربما كانت الأحداث متوقعة إلى حد كبير، إلا أن قلم مدحت العدل كان مثل مشرط الجراح شرح به فئات المجتمع وغاص به فى أعماق النماذج المختلفة من البشر فى محاولة لتعرية نفوسهم.. واستطاع السيناريست الماهر بعباراته المنمقة الحالمة التى امتازت بها دواوينه أن يجعل من كل مشاهد بطلا لمسلسله.

فكل سيدة هزمها الزمان نظرت فى مرآتها لترى صورة نيللى كريم.. الزوجة التى بذلت الرخيص والغالى من أجل زوج أنانى.. فأهملت نفسها وتركت عملها بل وتركت الدنيا من أجل أن تقبع تحت قدميه فكانت النتيجة المعتادة هى.. خيانته وتخليه عنها.. ووقوعه فى شراك أخرى تمتلك الجمال الذى افتقدته زوجته بسبب المسئولية.

الحقيقة أن نيللى كريم ببساطتها ورقى أدائها الذى اكتسبته من كونها راقصة باليه، استطاعت بكل بساطة ودون إقحام لمشاعر زائفة أو انفعالات مُبالغ فيها، أن توصل الصورة وتتسلل إلى ملامح كل النساء المكسورات، فها هى تبكى فيتألمن.. وها هى تنتقم فيبتسمن.. وها هى تستعيد رونقها فيصفقن..

وإحقاقا للحق استطاعت زينة أيضا الفوز بالرهان فجسدت دوراً صعباً قد يجعلها تخسر صورتها عند الجمهور أو يرسخ لصورة أكثر قسوة صنعتها أحداث حياتها الشخصية! لكنها قبلت التحدى، ونجحت فيه بامتياز.

هل القصة اقتصرت فقط على قصة الزوج الندل والصديقة الحقودة؟ الإجابة: لا.

فالقصة تشعبت لتقدم ألف صورة أخرى.. الأم التى سكن الجمود ملامحها وتحولت مشاعرها إلى صنم لمجرد أن زوجها كان رجلاً هوائياً، فقتل بداخلها مشاعر الأنثى، ومن شدة كرهها له كرهت كل ما ربطها به.. حتى أولاده! فتخلت عن ابنتها فى عز أزمتها لأنها لم تتعود التضحية ولم تتعود العطاء.

هنا أختلف مع المؤلف فى أن بيع الأم لابنتها والابنة الصغيرة لأمها والإخوة لشقيقتهم، صورة مُبالغ فيها وتُعطى انطباعاً سيئاً للمجتمع بأسره، كما أن صورة الخيانة الزوجية والعلاقات غير الشرعية المتعددة، صورة على الرغم من وجودها إلا أنها سلبية.

لم أجد أيضا مبرراً كافياً يقنعنى بسبب ارتداء جميلة للنقاب حتى لو كانت تحاول الاختباء خلفه، على الرغم من أن خلعه كان مُبررا جدا.

من بين سطور السيناريو يظهر البطل الحقيقى للمسلسل وهو العملاق نبيل الحلفاوى بكل عفويته وقدرته السلسة على الانتشار تحت جلد المشاهد والتغلغل فيه.

بلا شك أن نبيل الحلفاوى هو هذه الشخصية التى يخلقها أى كاتب من بين أصابعه لتتكلم بصوته وتنفعل بانفعالاته وتبكى بدموعه.

وربما كانت تلك الصورة أيضا هى رُمانة الميزان التى تُعادل كل التدنى الأخلاقى الذى عانى منه أبطال المسلسل طوال الوقت.

لا يسعنى فى النهاية إلا أن أقول إننى كمشاهدة استمتعت بعمل درامى جميل حمل بكل صدق ملامح البشر فى الأزمات الإنسانية.. ولا يسعنى سوى أن أقول أن كلمات أغنية التتر (الناس العُزاز) وأغنية (هجرتنى) هى عودة حقيقية لزمن الفن الجميل الراقى.

ولا يسعنى سوى أن أردد.. ملعون أبو الناس العُزاز اللى لما احتجنا ليهم طلعوا أندال بامتياز.. وما أكثرهم!