د. رشا سمير تكتب: هؤلاء صانوا الأرض.. وهؤلاء دنسوها!

مقالات الرأي



سمعت التسجيل الصوتى لشهيد سيناء المقدم أحمد منسى أكثر من مرة وأنا فى حالة دهشة ما بين الشك والتصديق!.. هل من الممكن أن يكون هذا التسجيل مفبركا أم إنه حقا صوت الشهيد فى اللحظات الأخيرة من حياته؟.. ولم تمر ساعات حتى جاء الرد على لسان المتحدث العسكرى للقوات المسلحة مُصرحا بأن هذا التسجيل مفبرك.. والسبب؟ الله أعلم!.

بغض النظر عن صحة التسجيل، يبقى السؤال الذى مازال يُحيرنى كلما استمعت إلى مداخلات الضباط والجنود من زملائه بالكتيبة فى البرامج الفضائية، وفرحتهم الممزوجة بالدمع والفخر فى جنازته بنزول أخيهم مرتبة الشهداء، بل ووصية البطل بألا يتم تكفينه حتى يتم دفنه بملابسه العسكرية.. وابنه الصغير الذى جاور جثمان أبيه ذارفا دمع الفخر.

السؤال هو: من أين أتى الشهيد المنسى وكل من استشهدوا قبله من أبناء القوات المسلحة والشرطة بكل هذا الثبات والإصرار على الشهادة من أجل الأرض؟ ولماذا لم يحاول أى من جنودنا الذين استشهدوا من قبل الفرار من قبضة العدو ناجين بأنفسهم؟ لماذا تمسكوا بالدفاع عن الأرض حتى آخر قطرة دم ونفس حي؟

الإجابة هى كلمة واحدة: الإيمان.. نعم.. الإيمان.

إن هؤلاء الجنود هم نوع من البشر اختصهم الله بنعمة الإيمان، والإيمان هنا ليس فقط إيمان بالله، بل هو إيمان بالوطن وإيمان بشرف الدفاع عن الأرض وإيمان بالمبدأ.

هكذا تعلمت من والدى الرجل العسكرى المُقاتل اللواء بسلاح المدرعات، الذى أفنى حياته فى خدمة الوطن وطالما تمنى الموت من أجل أن تحيا مصر.. الرجل الذى مازال ينتقد تذمرنا من أجل الغلاء والمعيشة قائلا: احمدوا ربنا أن لسه عندكم وطن!.. إذن هو الوطن.

أشعر بالأسى والقهر كلما سقط أحد جنودنا شهيدا برصاص إرهاب داعش الغادر.. وينتابنى فخر الدنيا حين تصول قواتنا الجوية لتقصف الأهداف الإرهابية فى كل مكان انتقاما وثأرا لأبناء الوطن مثل النسور..

فى نفس الأسبوع الذى تعرض فيه جنودنا للغدر مرتين فى كمائن سيناء وسالت دماء الشهداء على الأرض الطاهرة ترويها، وبدون ترتيب مُسبق كنت شاهد عيان على معركة من نوع آخر يقودها فئة أخرى من البشر.. بشر لا يبالون إلا بمصالحهم الدنيئة ويتكالبون على الدنيا وكأنها آخر همهم وأكبر معاركهم.. ومن بين هؤلاء لمحت شابا هزيلا يمتلك من الأخلاق أدناها ومن الصفات أردأها يقف محاربا شاهرا سيفا من ورق فى وجه زملائه وأصدقائه، ليطعنهم فى ظهورهم من أجل قطعة لحم عفنة رماها له هؤلاء ممن يعرفون جيدا كيف يروضون تلك النوعية الخسيسة من البشر!..

تساءلت وأنا أرقب هذا النوع الرخيص من البشر.. تُرى هل سأل نفسه ماذا كسب من تلك المعركة الدنيئة أو ماذا خسر؟..

ربما كسب المال، وربما كسب السلطة، لكنه فقد الأهم والأبقى، فقد احترامه لنفسه ومصداقيته عند زملائه والأقوى من هذا وذاك فقد إيمانه بالمبادئ التى لم يكن فى الأصل يمتلكها!..

لا يجوز لى هنا أن أقول إن الجرى وراء قطعة لحم هى أخلاق الكلاب لأنها إساءة لهذا الحيوان الجميل الذى يمتلك من الفضائل أسماها.. وهى فضيلة الوفاء.. الفضيلة التى أصبح لا يمتلكها أغلب البشر فى زماننا هذا.

مازالت تخيفنى فكرة أن أخلاق البشر تدنت إلى الحضيض، وأن تكالبهم على المناصب وصراعهم على الدنيا الزائلة وغضهم البصر تماما عن فكرة وجود الله سبحانه وتعالى فى نهاية الطريق ليحاسبهم..

إن سقوط شهداء كل يوم ووفاة المذيع الشاب عمرو سمير وسقوط أطفال صغار فى قبضة أمراض فتاكة مثل مرض السرطان، جعلنى أتمهل وألتقط أنفاسى وأتعجب من جبروت وشر يمارسه بعض البشر متوهمين أنهم مخلدون!.

يقول الله سبحانه وتعالى فى قرآنه الكريم: ((وَلاَ تَمْشِ فِى الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً)) صدق الله العظيم.

مازالت صورة شهداء الجيش المصرى وهم ممددون على الأرض مضرجين فى دمائهم ممسكين بسلاحهم الميرى والابتسامة مرسومة على وجوههم، هى الصورة الوحيدة التى تُعطينى الأمل وتمنحنى سكينة البقاء..

فى زمان طالما رقصت فيه الكلاب على جثث الأسود.. مازالت مصر قادرة على الصمود طالما مازال هناك بشر تسكن الأرض قلوبهم، رافضين التفريط فى حبة الرمل حتى لو كان الثمن حياتهم.. فالدماء ترخص لو كانت فداء للوطن..