رامي المتولي يكتب: Dunkirk.. المنتصر هو من يصمد على طريقة نولان

مقالات الرأي



الفيلم الروائى الطويل رقم 10 فى مسيرة المخرج كريستوفر نولان Dunkirk مثير للجدل كالعادة سيكون من المجحف أن يصنف كفيلم حربى، وتحميله عبء رواية دقيقة لأحداث ميناء دنكيرك أثناء الحرب العالمية الثانية ومحاسبته كفيلم تاريخى ليس صحيحًا والادعاء أن الفيلم لا ينتمى لعالم نولان ليس صحيحا أيضًا، الفيلم يحبس الأنفاس ومشوق على الرغم من أن الحوار اختفى من معظم مشاهد الفيلم وحل محله موسيقى هانز زيمر إلا أن الفيلم له بناء متماسك على الرغم من الحالة المبعثرة التى تبدأ بها الأحداث ليقود فى النهاية لتعبيره عن حالة الصمود والرغبة فى الحياة أو الموت حسب كل شخصية ونصل فى النهاية أن مجرد الصمود وحده هو من يُرسم المنتصر بإكليل الغار ليس إلا.

الفيلم ليس حربيا ولا تاريخيا فلا يجوز انتظار مشاهد معارك كبرى ولا رواية دقيقة للأحداث فمن يهوى الأولى سيجد مئات الأفلام الحربية الكلاسيكية التى ستشبع رغبته فيلم Saving Private Ryan أحد أهمها وDirty Dozen كذلك، ومن يرغب فى تدقيق ورواية صحيحة مدققة للتاريخ فالكتب والأفلام الوثائقية التعليمية هى ضالته مجال الحديث عنها ليس الفن والسينما تحديدًا فالفيلم يحمل وجهة نظر صانعه المبنية على تجارب وآراء ذاتية وكما شرح ستانلى كوبريك أسباب هزيمة الجيش الفرنسى فى Paths of Glory يضع نولان رؤيته لأسباب انتصار بريطانيا فى الحرب العالمية الثانية.

نولان ينتمى للتجريب، لم يستقر على أسلوب، أفلامه مختلفة تمامًا عن بعضها البعض لا يجمعها شيء حتى سلسلة Dark knight يختلف أفلامها الثلاثة عن بعضها البعض وبفروق واضحة حتى مع وحدة موضوعهم وتتابعه الزمنى، ففكرة أن فيلم نولان الأخير لا ينتمى لما يقدمه كريستوفر فهو افتراض مضحك فالمخرج والمؤلف البريطانى ليس له أسلوب أو مدرسة محددة المعالم، فقط لديه أدوات محددة يستخدمها بشكل مختلف من فيلم لآخر، السرد والخط الزمنى أحدهما فى Dunkirk يؤسس للمكان باستخدام 3 أزمنة الأساس هو ميناء دنكيرك حيث أكثر من 300 ألف جندى وضابط بريطانى وعدد كبير من افراد الجيش الفرنسى، أول تأسيس زمنى هو أسبوع قبل الإجلاء ويمثله جندى من الجيش البريطانى يدعى تومى (فيون وايتهيد) ويسير خطه الزمنى بكل شخوصه ليلتقى مع تأسيسين آخرين الأول قبل يوم من الإجلاء ويمثله بشكل رئيسى مواطن بريطانى يملك يختا يذهب بنفسه ليجلى الجنود المحاصرين هو مستر داوسون (مارك ريلانس) ومعه ابنه وأحد أبناء بلدته فى اليخت والتأسيس الثالث هو 3 مقاتلات بريطانية قبل ساعة من الإجلاء ويمثله بشكل رئيسى فارير (توم هاردى) الخطوط الثلاثة تتلاقى وترتبط ببعضها البعض على مهل حتى يصير خطها الزمنى موحدا تمامًا فى نهاية الفيلم حيث تتجلى فكرة الصمود على الأبطال الباقين على قيد الحياة ومن رحلوا.

اختيار نولان لهذا السرد المعقد زاد من تعقيده اختيار نولان غياب الحوار تقريبًا والاستعاضة عنه بشكل رئيسى على الصورة واللغة السينمائية والتعبير حركيا وأدائيًا من قبل الممثلين من جهة، وبالموسيقى التصويرية من جهة أخرى، نولان يملك ناصية الصورة واللغة السينمائية الكادرات هى لوحات مرسومة تضخم الأحساس بالكآبة ووطء الموت وتوقف الزمن تقريبًا عند الاحتياج لمعجزة غلب عليها اللقطات البعيدة والمتوسطة التى تضع المشاهد دائما فى تفاصيل المشهد ككل دون الاقتراب بشكل مفرط مع الشخصية، مع المونتاج الحاد وقطعاته السريعة للمشاهد مدعوم بشريط صوت يضخم من صوت الرصاص والقنابل والرياح كل هذا مع أداء الممثلين الصامت أغلب الأوقات وحركاتهم الحادة الفجائية جعل من حالة التحفز والتوتر عند المشاهد تصل لأقصاها وجعل حالة من التماهى مع الحدث تصل بمنتهى السهولة للمشاهد.

الموسيقى التصويرية فى حد ذاتها عنصر يجب الحديث عليه طويلًا ليس فقط لاعتماد نولان عليها كبديل للحوار وأداة رئيسية لتوصيل رؤيته فقط، لكن لفلسفة هانز زيمر فى خلقها، اعتماده الرئيسى على دقات الساعة وخفقان القلب كأساس وإيقاع للمقطوعات الموسيقية التى تعاقبت طوال الفيلم ولم تبتعد عن أذن المشاهد الا قليلاً، ربما الصوتان (دقات الساعة والقلب) من اكثر الأصوات المعتاد عليها من قبل البشر جميعًا ومع استمرارهم فى الدق تقريبًا لأكثر من ثلثى الفيلم جعل حالة من الاعتياد تصل لوعى المشاهد ينضبط إيقاعه معها ويظل متحفزًا حتى النقطة التى اختارها نولان ليعلن توقفها محدثًا الأثر المطلوب وتحويل مشاعر المشاهد 180 درجة فى لحظة، لا يمكن بعد هذا أن نعتبر الموسيقى التصويرية جزءا من الفيلم وإحدى الأدوات المعبرة ووجودها هنا ضرورى ومبرر طوال الفيلم ودونها سيفقد الفيلم أحد عناصره مشهد القطار قبل نهاية الفيلم أكبر دليل على ذلك فوجود حوار ثنائى سيضعف من المشهد المهم، لكن توقيف الموسيقى التصويرية عند هذه النقطة يحدث الأثر المطلوب.

الفيلم فى الحقيقة أفضل أفلام العام حتى الآن ويعبر بقوة عن التطور الذى وصلت له الصناعة فى العالم بأكمله، وكيف يعبر هذا الفن المعقد مستخدمًا كل هذا القدر من الأدوات والطاقات والخبرات البشرية عن حالة وشعور إنسانى، دون اللجوء لخدع بصرية مبهرة أو الاستعانة بأسماء لامعة ونجوم شباك، فقط خلق حالة شاعرية والتعبير عنها بشكل صحيح لنقف أمام فيلم يعد درسًا واضحا لخلق الإبداع.