عادل حمودة يكتب: تجربة دولة فاشلة عاصمتها موسكو

مقالات الرأي



الكتاب الأكثر مبيعا فى لندن ونيويورك: "كل شىء ممكن لكن لا شىء حقيقى"

■ تحطمت مرة بالشيوعية ومهددة مرة أخرى بالفاشية ولكن الغالبية لا تزال تبحث عن الخبز قبل الحرية وترى أن الاستقرار ينقذ البلاد من الإرهاب

■ الكرملين سيطر على الشعب بالتليفزيون ورؤساء الشبكات ينفذون تعليماته بدقة


كانت رسالة مقدم البرامج الشاب على قناة أوستانكينو إلى الرئيس فلاديمير بوتين رسالة جريئة.. كل جملة فيها تؤدى إلى السجن فى جليد سيبريا عشر سنوات:

سيدى الرئيس.. أنت تتصور أن بإمكانك القبض على صوتى وأنا أنصحك ألا ترتكب هذه الحماقة.. فكبت الحريات الذى عشناه خلال وجود الاتحاد السوفيتى أدى بنا إلى دولة فاشلة انتهت بتفكيك إمبراطوريتها العظمى.

كل الزجاجات التى استعملتها السلطة لتعبئة أصوات الغاضبين انكسرت.. كل الأقفاص التى صنعتها لحبس المشاغبين تحطمت.

لو تصورت أنك قادر على الاعتصام بعيدا عن النار فأنت لا تعرف طبيعة النار.. ولو واجهت الثورة الثقافية بأحكامك العرفية.. ستسقط تحت أقدام هذه الثورة.

لا تكرر الخطأ القاتل وتدفع بنا إلى هاوية الدولة الهشة من جديد ولن ينقذنا من هذا المصير سوى تنمية الديمقراطية.. فالدولة التى تنفيها دولة فاشية وفاشلة مهما بدت قوية.. ولنتذكر جميعا ألمانيا أودلف هتلر.. لم يكن هناك أقوى منها.. لكنها تكسرت وانقسمت فى النهاية.

وفى ربع ساعة فقط كانت الرسالة قد انتشرت عبر شبكات التواصل الاجتماعى ووصلت إلى مليونى شخص.

ولم ينم الشاب فى بيته.. اختفى قسريا.. وفى اليوم التالى كان أحد زعماء مافيا الرقيق الأبيض يشترى القناة ويحولها من قناة سياسية إلى قناة رياضية وترفيهية مقابل مقعد فى البرلمان حصل عليه فيما بعد ومكاسب أخرى لم يفصح عنها بيتر بوميرانتسيف.

وبيتر بوميرانتسيف هو روسى الأصل.. أجبر على الهرب إلى لندن مع والده السياسى المعارض فى سنوات حكم خروتشوف ولم يعد إلى بلاده إلا فى السنوات الأخيرة ليستفاد من خبرته فى إنتاج برامج التليفزيون الواقعية وسجل تجربته هناك فى كتاب لخص عنوانه لا شىء حقيقى وكل شىء ممكن ما تعيشه روسيا اليوم.

إن أول ما قام به بوتين عندما تسلم مقاليد الحكم فى عام 2000 هو السيطرة على التليفزيون بعد أن آمن بأن ذلك الجهاز الساحر هو القوة الوحيدة التى يمكنها توحيد هذا البلد وجمعه وحكمه.

سيطر الكرملين على شبكات الفضائيات ليقرر من يظهر على شاشتها ومن يمنعه منها؟.. من يمثل دور المعارض الوهمى ومن يجيد تبرير القرارات والسياسات ولو كانت خاطئة؟.

وتبث قناة أوستانكين حصريا جلسة بوتين الأسبوعية مع حكام المناطق المختلفة وهو يوجه انتقاداته إليهم: أنت لديك إرهابيون تعجز عن القضاء عليهم.. وأنت لم توفر ما يحتاجه الناس من وقود.. أما أنت فقد تأخرت فى صرف المعاشات.

ولكن.. الكرملين لم يكرر خطأ الاتحاد السوفيتى القديم ويترك التليفزيون غارقا فى الملل.. بل.. على العكس ضاعف من مساحة الترفيه على الطريقة الأمريكية.. فشعار قناة تى إن تى مثلا مصمم بألوان زهرية مفرحة وصارخة وتحته جملة أشعروا بحبنا.. وحظى برنامجها الواقعى كيف تتزوجين مليونيرا؟ أعلى نسب مشاهدة لسنوات طويلة.

ويعتمد البرنامج على نصائح أكاديميات متخصصة فى تلقين الفتيات كيفية الحصول بسهولة على زوج ثرى؟ أو كيف تكون امرأة واقعية ولو كان الثمن أخلاقيا؟ مثل أكاديمية جولد ديجر وكلية جيشا وتكلفة الدراسة ألف دولار فى الأسبوع.

والنصائح فى الحقيقة نوع من الدعارة الراقية: فى الموعد الأول لا تتزينى بحلى إذ يفترض أنك فقيرة وعليه أن يشترى لك الحلى.. و لا تستعملى سوى سيارة متهالكة حتى يكون راغبا فى شراء سيارة حديثة.. ولو كان مولعا بالأدب فاحفظى أشعارا عاطفية.. ولا تبدين أمامه قوية فأنت مجرد زهرة جميلة.

ويقدم البرنامج قوادا سمينا وقصيرا هو بيتر ليستر لكنه يصف نفسه بأنه سمسار زواج.. وأمام أسياخ من الكباب يقول للفتيات فى إعلاناته: تعال إلينا إذا كنت تبحث عن كتكوتة.

ومن الكتاكيت اللاتى ظهرن فى البرنامج كانت أوليونا التى جاءت إلى موسكو مفلسة لتعمل راقصة ستربيتيز فى كباريه ولكنها بعد أن اصطادت زبونا ثريا شاهد مفاتنها على شاشة البرنامج أصبحت تسكن فى شقة إيجارها 4 آلاف دولار شهريا وتمتلك سيارة جراند شيروكى وتقضى أسبوعين كل عام فى شرم الشيخ مع عشيقها.

وتسمى الفتيات من عينة أوليونا بتيولكى أى النعجة أما الرجال فيسمون فوربس نسبة إلى المجلة الشهيرة التى تنشر قوائم الأكثر ثراء فى العالم.

وفى سنوات ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتى سيطر زعماء العصابات على الثروة والسلطة فى البلاد ولكن ما أن دخل بوتين الكرملين حتى انتقلت السيطرة على الجريمة المنظمة إلى إدارة أمنية سرية عجز الأشرار على مواجهتها فأصبح بعضهم نوابا فى البرلمان وأصبح البعض الآخر رجال أعمال وتسابقوا جميعا على إنتاج أفلام وبرامج تليفزيوينة تمجد حياتهم وبطولاتهم الإجرامية.

لقد روى رجل العصابات فى التسعينيات فيتالى ديو موشكا سيرته الذاتية فى فيلم حقق إيرادا عاليا فى السينما وعندما عرض على فضائية تى إن تى جذب ساعة كاملة من الإعلانات التجارية وضاعف من شهرته وفى اليوم التالى قلد الشباب حلاقة شعره وألوان ثيابه وشاعت جملته: أنا شرير ولكننى لست سيئا وتلتقط الفتيات صورا لهن بجانب شواهد قبور نقشت عليها صور زعماء عصابات قتلوا فى معارك شهيرة مثل بويا الملاكم وبوريس مرسيدس.

قضى فيتالى خمس سنوات فى السجن أول مرة وعندما خرج منه فى عام 1988 وجد الاتحاد السوفيتى زال من الخريطة ووجد المدرسين والقضاة ورجال الشرطة لا يتقاضون رواتبهم وعمال المصانع ينتجون سلعا ثقيلة لا يحتاجها أحد.. لقد وصلت بلاده إلى الفضاء وأنتجت قنابل نووية وصواريخ عابرة للقارات ولكنها فشلت فى إنتاج مقلاة لا يلتصق بها الطعام.

وفى غياب الأمن بدأ الناس يلجأون لرجال العصابات لاسترداد حقوقهم واستدعاهم الأثرياء لإتمام صفقاتهم ويوما بعد يوم سيطرت المافيا الروسية على كل شىء ومدت نفوذها خارج البلاد لتسود الجريمة المنظمة فى العالم.

ورغم أنهم باتوا بلا عمل الآن فإن طريقتهم فى التصرف أصبحت نموذجا فى كل مكان وزمان.. فهم يساندون الكرملين فى الحكم.. وهم مستعدون للتخلص من معارضى الرئيس بالقتل لو شاء.. وهم يملكون شبكات تليفزيونية يوظفون فيها قوادين وعاهرات يملكون جرأة فى التعبير تفضح خصوم الحكم بما يتوافر لديهم من معلومات وفيديوهات تسربها إليهم الحكومة.

يقول فيتالى: فكرت فى احتراف العمل السياسى فهو لا يختلف كثيرا عن عملنا لكننى وجدته مملا ففضلت الفن عليه.

ولعرض وجهة نظر الدولة فى الأحداث العالمية أنشئت قناة روسيا اليوم الإخبارية بمرسوم رئاسى وبميزانية سنوية تفوق 300 مليون دولار لتبث دون توقف باللغات الإنجليزية والعربية والإسبانية ووظف فيها شباب تخرج فى جامعات غربية، ولكن العديد منهم استقال على الهواء عندما عجز عن قول الحقيقة.. فهم لم يقبلوا بأن يكونوا دمى يحركها بوتين.. كما لم يقبلوا بتمجيده ووصفه بالرئيس الذى يقطر خبرة وحكمة.

ورغم وجود مؤسسات مستقلة بحكم الدستور فإن كل من يديرونها يتلقون تعليمات مباشرة من السلطات العليا بما فى ذلك البرلمان (الدوما) الذى صرح رئيسه ذات يوم بأنه ليس مكانا للنقاش.

وأخطر ما تواجه روسيا التنظيمات الإرهابية الإسلامية واللافت للنظر أن نساء الشيشان يتقدمن المنتحرين ويسموهن هناك العناكب السوداء.

لقد قادت واحدة منهن مجموعة من 45 إرهابيا للاستيلاء على مسرح نورد أوست لمنع عرض أول مسرحية غنائية تنتج منذ عصر ستالين يوم 23 أكتوبر عام 2002 واحتجزوا الممثلين والمطربين رهائن لهم وتركزت مطالبهم فى سحب القوات الفيدرالية من شمال القوقاز والإفراج عن المعتقلين من الدعاة والمتطرفين الإسلاميين.

وسمح المهاجمون لفرق تليفزيونية بالدخول إلى المسرح وإجراء مقابلات معهم ولم يترددوا فى القول: جئنا لنستشهد وسنصطحب مئات من الكفار معنا.

وقالت إحدى العناكب السوداء إلى الكاميرا: إنها كانت من عائلة علمانية وانضمت إلى المجموعة بعد أن قتل والدها وزوجها ونسيبها أثناء حرب روسيا على الشيشان.

وبهدوء تام أضافت: إذا متنا فلن تكون النهاية فهناك المزيد منا.

وخارج الكادر تحدثت بائعة هوى اسمها دينارا عن التناقض الذى تعيشه كمسلمة فهى تحترف الدعارة لكنها لا تأكل لحم الخنزير ورغم أن والديها علمانيان فإن الأجيال الجديدة فتنت بالوعاظ الذين قدموا إلى القوقاز.

لم تستطع دينارا تحمل الوعاظ ولكن شقيقتها الصغرى اتبعت تعاليمهم وغطت نفسها بنقاب وانضمت إلى المجموعة التى استولت على المسرح.

ونأتى للشخصيات المؤثرة فى عقلية النظام ويمثلها فلاديسوف سوركوف الذى يوصف بقوة الكرملين المبدعة.. تولى أكثر من منصب.. نائب مدير الإدارة الرئاسية.. نائب رئيس الوزراء.. ومساعد الرئيس للشئون الخارجية.

يلتقى سوركوف فى مكتبه بالكرملين برؤساء القنوات التليفزيونية مرة كل أسبوع ليوجه إليهم تعليمات حول من يهاجمون ومن يدافعون؟ ومن يسمح لهم بالظهور ومن يمتنعون؟ وكيفية تقديم الرئيس؟ ويفرض عليهم تكرار كلمة الاستقرار يوميا رغم أن الغالبية تشعر بعدم الاستقرار.

وتحت إشرافه تنتج الفضائيات رويات رعب عن مذابح مدبرة وعودة إلى شيوعية انتقامية وأحزاب يمينية تبشر بستالين جديد ليقتنع الشعب بأن بوتين هبة من السماء يجب السجود لها شكرا.

ووضع سكوركوف الخطة التى سميت سنوب لخلق مرشح ليبرالى مدعوم من الكرملين ليواجه بوتين فى الانتخابات الرئاسة التالية واختير للعب هذا الدور مرشح ليبرالى اسمه بروخوروف ساعدوه أن يكون محبوبا من المثقفين الذين يتشككون فى كل شىء ولا يذهبون فى الغالب للتصويت.

ويبرر سكوركوف ما يفعل بأنه لصالح بلاده التى عاشت سنوات من الركود الشيوعى أدت إلى البروستريكا التى نجم عنها انهيار الاتحاد السوفيتى وجاءت الفرحة الليبرالية بكارثة اقتصادية وحكم الأقلية الفاسدة ودولة المافيا، ليأتى بوتين بقوة شخصيته وسحر وطنيته ليوحد شعبا تمزق ويطعم بشرا جاعوا ويمنح البلاد دورا خارجيا تراجع.

ويؤيد وجهة نظره الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى ويرون أن الحياة الغربية لا تلائم بلادهم وأن الرفاهية يجب أن تتحقق قبل الديمقراطية وأن الفاشية لو كانت تهدد بلادهم قيراطا فإن الليبرالية تهددها مائة قيراط ولا تزال هذه النظرية مسيطرة فى روسيا وهو ما يمنح بوتين شعبيته الواضحة ولو كان بعض منها مدبرا بفعل السيطرة على التليفزيون.