تفسير الشعراوي للآية 30 من سورة المائدة

إسلاميات

الشيخ محمد متولي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)}.

ولا يقال: طوعت الشيء إلا إذا كان الشيء متأبيا على الفعل، فلا تقل: أنا طوّعت الماء، وإنما تقول: طوّعت الحديد، وقوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} فهل نفسه هي التي ستقتل وهي نفسه التي طوَّعَت؟

ولننتبه هنا أن الإنسان فيه ملَكتان اثنتان؛ ملكة فطرية تُحبّ الحق وتُحبّ الهير، وَملَكَة أهوائية خاضعة للهوى، فالملكتان تتصارعان.

{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} كأن النفس الشريرة الأهوائية تغلبت على الخيّرة، فكأن هناك تجاذبا وتصارعاً وتدافعاً؛ لأن الإنسان لا يحب الظلم إن وقع عليه. لكن ساعة يتصور أنه هو الذي يظلم غيره فقد يقبل على ذلك.

{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} إنه لا يزال فيه بقيّة من آثار النُّبوة؛ لأنه قريب من آدم، ولاتزال المسألة تتأرجح معه، والشر من الأخيار ينحدر، والشر في الأشرار يصعد. فقد تأتي لرجل طيب وتثير أعصابه فيقول: إن رأيته لأضربنه رصاصة أو أصفعه صفعتين، أو أوبِّخه، والشرِّير يقول: والله إن قابلته أبصق في وجهه، أو أضربه صفعتين، أو أضربه رصاصة. إذن فالشر عند الشرِّير يتصاعد، ويجد العملية لا تكفي للغضب عنده فيصعدها. إنما نفس الخير تُنفِّس عن غضبها وبعد ذلك ينزل عنها بكلمة، ولذلك نلاحظ في سورة سيدنا (يوسف): {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8].

والعجيب أنهم جاءوا بالتعليل الذي ضدّهم؛ كي يعرفك أن الهوى والغضب والحسد والحقد تقلب الموازين، {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} هذه تدل على أنهم أقوياء. وهي التي جعلت أباه يعقوب يعطف على الضمير. أنتم تقولون: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا} نعم؛ لأنه صغير، وسألوا العربي: مالك تُحب الولد الصغير، قال: لأن أيامه أقصر الأيام معي، البكر مكث معي طويلاً، فأنا أعوض للصغير الأيام التي فاتته ببعض الحب وأعطيه بعض الحنان، قولهم: {نَحْنُ عُصْبَةٌ} هذه ضدهم، مما يدل على أن الرجل ساعة تختلط عليه موازين القيم، يأتي بالحُجّة التي ضده ويظن أنها معه! وبعد ذلك يقولون: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8].

واتفقوا. فبدأوا بقولهم: {اقتلوا يُوسُفَ} [يوسف: 9].

وقالوا: {أَوِ اطرحوه أَرْضاً} [يوسف: 9].

ولأنهم أسباط وأولاد يعقوب تنازلوا عن القتل والطرح في الأرض وقال قائل منهم: {لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} [يوسف: 10].

وهل يرتب أحد النجاة لمن يكرهه؟

كأن النفس مازال فيها خير، فأولا قالوا: {اقتلوا يُوسُفَ} هذه شدة الغضب. أو {اطرحوه أَرْضاً} يطرحونه أرضاً فقد يأكله حيوان مفترس، فقال واحد: نلقيه في غيابة الجب ويلتقطه بعض السيارة، إذن فالأخيار تتنازل.

{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين}. ونعرف الخسران قضية التجارة؛ أن هناك مكسباً وهناك خسارة، و(مكسب) أي جاء رأس المال بزيادة عليه، و(الخسارة) أي أن رأس المال قد قلَّ، فلماذا قتل أخاه وكان أخوه الوحيد وكان يأنس به في الدنيا؟ إن هذا حدث من حكاية البنت. فقد أراد أن يأخذ أخته الحلوة ويترك الأخرى، ولما قدّما القربان ولم يقبل منه تصاعد الخلاف وقتل أخاه، إذن فَفَقد رأس المال، بينما كان يريد أن يكسب {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين}.

ويقول الحق بعد ذلك: {فَبَعَثَ الله غُرَاباً...}.