عادل حمودة يكتب: سر عبدالناصر

مقالات الرأي



لماذا يتصدر الغلاف بعد 100 عام من ميلاده؟

■ لو وضعت المناسبة تحت رعاية الرئيس فإن مؤسسات الدولة ستبتكر فى الاحتفال بها فلم يعد أمامها سوى خمسة شهور فقط

■ يمكن إصدار عملات تذكارية وطوابع بريد وملصقات للسيارات وإنتاج فيلم تسجيلى وفتح متحف منشية البكرى مجانا

■ لكن الأهم دعوة شخصيات عربية ودولية إلى ندوة تناقش فيها السلبيات قبل الإيجابيات والانكسارات قبل الانتصارات

■ عبد الناصر لم يختر شمس بدران ليخلفه يوم التنحى وبصوته نسمع منه حقيقة موت المشير وأسباب الهزيمة وسر مماطلة السوفيت فى تسليح الجيش

■ فرصة لتصحيح التاريخ بعد توافر المستندات ولنستفيد من دروس التجربة حتى لا نكرر أخطاءها!


فى كل مرة هبط فيها نزار قبانى القاهرة كان يحرص على زيارة قبر جمال عبد الناصر لكنه لم يكن ليكتفى بوضع زهور على ضريحه وإنما كان يعطرها بأبيات من قصائده الأربع التى كتبها فيه:

«زمانك بستان وعطرك أخضر.. وذكراك عصفور من القلب ينقر.. ملأنا الأقداح يا من بحبه سكرنا.. كما الصوفى بالله يسكر.. دخلت على تاريخنا ذات ليلة.. فرائحة التاريخ مسك وعنبر.. وكنت فكانت الحقول سنابل.. وكانت عصافير.. وكانت صنوبر.. وأمطرتنا حبا.. ولازلت تمطر».

«كرسيك المهجور.. فى منشية البكرى.. يبكى فارس الأحلام.. وساعة الجدار فى ذهولها ضيعت الأيام».

«نزلت علينا كتابا جميلا.. ولكننا لا نجيد القراءة.. وسافرت فينا لأرض البراءة.. ولكننا ما قبلنا الرحيلا».

«تركناك فى شمس سيناء وحدك.. تكلم ربك فى الطور وحدك.. وتعرى.. وتشقى.. وتعطش وحدك.. ونحن هنا نجلس القرفصاء.. ونحشو عقول الجماهير تبنا وقشا».

«قتلناك يا آخر الأنبياء.. قتلناك وليس بغريب علينا قتل الصحابة والأولياء.. فكم من رسول قتلنا وكم من إمام ذبحناه وهو يصلى العشاء».

لكن.. نزار قبانى ليس الشاعر الوحيد الذى صاغ عبد الناصر شعرا.. يكاد لا يوجد شاعر عربى واحد عاش زمانه لم يرصع دواوينه بقصيدة عنه.

وصفه محمود درويش بـ«الرجل ذو الظل الأخضر»: «نعيش معك.. ونسير معك.. ونجوع معك.. وحين تموت نحاول إلا نموت معك.. ففوق ضريحك ينبت قمح جديد.. وينزف ماء جديد.. وأنت ترانا نسير ونسير ونسير».

وفى قصيدة معين بسيسو «رسالة فى زجاجة إلى جمال عبد الناصر» «يخرج طفل من بولاق.. محمول على الأعناق.. يرفع صورتك.. ولا يعرف أين يسير».

ويبكيه سميح القاسم «ولكن واقفا وصامدا وزاحفا». وينادى محمد الماغوط: «أما من عبد الناصر جديد ولو برتبة عريف».

لن نستطيع رصد إلا ما تيسر من تلك القصائد.. لكن.. هناك فرصة لجمع أشهرها فى كتاب يصدر فى 15 يناير القادم.. احتفالا بمئوية ميلاد جمال عبد الناصر.

لكن.. الشعر وحده لا يكفى. ربما سككنا عملات ذهبية وفضية وبرونزية وأصدرنا طوابع بريد عليها صورته وتخصيص أسبوع للأفلام التى صورت عنه أو تناولت أحداثا سياسية وتاريخية صنعها أو فجرها دون أن ننسى فيلما تسجيليا يستعرض حياته ومحطات نضاله بجانب فتح متحفه مجانا للجمهور وتصميم ملصقات للسيارات تؤكد على مبادئه الوطنية التى لا نزال نؤمن بكثير منها.

أعرف أن هناك من يرى أنها دعوة مبكرة للاحتفال.. لكنها.. فى الحقيقة دعوة متأخرة.. فكل ما هو أمامنا لا يزيد عن خمسة شهور.. ستتناقص يوما بعد يوم حتى نجد أنفسنا وجها لوجه أمام مناسبة لن تتكرر.

إنها طبيعتنا العشوائية.. الارتجالية.. تأجيل التفكير فى أمورنا حتى نجدها ملقاة فى حجرنا.. نعرف موعد العيد لكننا لا نشترى ثيابه إلا ليلة ظهوره.. نعرف موعد الامتحان لكننا لا نفتح الكتب إلا قبل أن نسمع الجرس بساعات.. دائما بعد فوات الوقت المناسب.. دائما نستيقظ بعد أن تكون الأيام قد أكلت نفسها غيظا وتكسرت انتظارا وتعثرت غلا.

وأتصور أن هناك إعجابا خاصا يحمله الرئيس عبد الفتاح السيسى لجمال عبد الناصر عبر عنه بكلمات متعددة فى خطاباته وأحاديثه كما أنه افتتح فى 28 سبتمبر 2016 متحفه فى بيته بمنشية البكرى وهو إعجاب سيمنح الاحتفال بمئوية عبد الناصر اهتماما مضاعفا لو وضع تحت رعايته.. ستتبارى مؤسسات الدولة فى التفكير والتنفيذ.. وسنجد إبداعا مبكرا ومذهلا لم نتخيل أننا يمكن أن نصل إليه.

لكن.. الأهم من مظاهر الاحتفال المعتادة الترتيب من الآن لندوة عربية وعالمية يدعى إليها سياسيون ومؤرخون وشخصيات بارزة قادرة على تقييم تجربة جمال عبد الناصر بسلبياتها قبل إيجابياتها.. بانكسارها قبل انتصارها.. إنها فرصة نادرة للاستفادة مما كان حتى لا نكرر الأخطاء ونضيع الفرص ونهدر الموارد.. فالتاريخ ليس علم الأحداث الميتة وإنما علم الخبرات الماضية.

والميزة فى هذا التوقيت.. أنه سيكون قد مر نحو 66 سنة على ثورة 23 يوليو 1952.. ومر نحو 51 سنة على هزيمة 5 يونيو 1967.. ومر نحو 38 سنة على رحيل عبد الناصر.. وهى مسافات زمنية مناسبة بل كافية لتقييم ما حدث بحرية دون ضغوط من نظم قائمة مخالفة أو جماعات مصالح غاضبة ورافضة.

ولا شك أن «مكتبة الإسكندرية» هى المكان المناسب لاستضافة الندوة.. فإن لم تكن فجامعة القاهرة.. فإن لم تكن فقاعة المؤتمرات فى شرم الشيخ.

إن عبد الناصر لا يزال يثير شهية الباحثين فى الغرب.. ليس حبا فيه وإنما خوفا من تكرار تجربته التى جعلت من القاهرة عاصمة ثالثة بعد واشنطن وموسكو.. يخشون تجمع عدم الانحياز من جديد.. ويخشون تجربة التنمية المركزية التى نفذها دون حرمان القطاع الخاص من المشاركة.. ويخشون من القدرة على كشف المؤامرات التى تنفذ للمنطقة لاستزاف مواردها وتفتيت وحدتها وتدمير تجانسها.. والدليل على ذلك أن جامعات أمريكية مثل بيركلى وهارفارد وجورج تاون لا تزال تحفز طلاب الدراسات العليا على إجراء دراساتهم عن مصر فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى بل وتجد لهم المنحة المالية اللازمة لذلك.. وهناك دليل آخر أن سبعين فى المائة من رواد مواقع عبد الناصر على الإنترنت (17 مليون زائر) من الولايات المتحدة.

لقد سبقتنا فرنسا فى الاحتفال بمئوية شارل ديجول (الأب الروحى للجمهورية الخامسة) فى عام 1990 بندوة دعى إليها شخصيات مؤثرة ارتبطت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالجنرال الذى حرر بلاده من النازية فى الحرب العالمية الثانية.. وشاركت الدكتورة هدى عبد الناصر ببحث عن علاقة والدها بديجول.. وكانت علاقة مميزة بين زعيمين استوعبا قيمة استقلال بلديهما بعيدا عن التحالفات والاستقطابات.. وقد حاول رجال شيمون بيرز الذى شارك فى الندوة إخفاء نسخ البحث ووضعها بعيدا عن العيون.

وكان ديجول قد كتب رسالة عزاء بخط يده فى اليوم التالى لوفاة عبد الناصر بعث بها إلى سفير مصر فى باريس عصمت عبد المجيد:

« أشاطر من كل قلبى الحزن العميق الذى أصاب مصر.. بفضل صفاته الاستثنائية من ذكاء وإرادة وشجاعة قدم الرئيس جمال عبد الناصر لبلاده وللعالم العربى أجمع خدمات ليس لها مثيل.. ففى مرحلة من التاريخ أكثر قساوة ومأساوية من أى فترة أخرى لم يتوقف عن النضال من أجل استقلال بلاده واستقلال الدول العربية.. وكذلك من أجل شرفهم وعظمتهم.. وقد كنا نحن الاثنان نبادل بعضنا البعض التفاهم والتقدير العميق».

«ولذلك فقد استطعنا أن نعيد بين مصر وفرنسا العلاقات الطيبة للغاية التى تمليها الصداقة الكبيرة والقديمة التى تربطهما ورغبتهما المشتركة فى تحقيق العدل والكرامة والسلام».

«وإذ أعبر لمصر من خلال شخصكم عن مشاعرى الراسخة أرجو سيدى السفير أن تتقبل فائق احترامى وأحر تمنياتى».

ورغم أهمية الرسالة فى تثبيت أهمية عبد الناصر فى عيون واحد من أعظم رجال العالم لكنها اختفت من وثائق الدولة الرسمية فقد اعتبرها عصمت عبد المجيد رسالة خاصة موجهة إليه بصفته الشخصية لا بصفته الرسمية فباعها إلى مركز شارل ديجول وقبض ثمنها- حسب ما سمعت منه وحسب ما نشرت على لسانه فيما قبل.

وخطورة هذه الواقعة أنها جعلت وثائق مصر فى مرحلة من أهم مراحل تاريخها مباحة لكل من يحصل عليها وقد كسب هيكل من ورائها الكثير.

الوحيدة التى دفعت من وقتها ومالها لنشر ما وجدت من وثائق هى هدى عبد الناصر التى حققتها ونشرتها مجانا على مواقع عبد الناصر الإلكترونية.

وأهمية الوثائق التى نشرتها أنها تصحح روايات شاعت إلى حد التصديق رغم أنها تخالف الحقيقة تماما.

مثلا: ذكر هيكل أن عبد الناصر يوم تنحيه بعد الهزيمة يوم 9 يونيو اختار شمس بدران ليخلفه فى السلطة ثم تراجع بتدخل من هيكل ليختار بدلا منه زكريا محيى الدين.

لكن.. عبد الناصر فى محضر اجتماع مجلس الوزراء يوم 27 أغسطس 1967 يقول إنه اتصل بالمشير عبد الحكيم عامر يوم 9 يونيو قائلا: «أنا شايف إنه يبقى فيه نظام جديد».. وسأله عن مرشح مناسب لرئاسة الجمهورية فرشح شمس بدران.

ويضيف عبد الناصر: «ولكن طبعا تفكيرى فى هذا الموضوع أن شمس بدران ما عندوش خبرة ولا يمكن بأى حال من الأحوال أنه يقوم بهذا الوضع ولهذا استقر الوضع على زكريا وما قلتش لزكريا وما قلتش لحد خالص».

وسبق أن تحدث عبد الناصر فى الموضوع نفسه أمام اللجنة التنفيذية العليا يوم 3 أغسطس 1967 حسب المحضر الذى سجل للجلسة.

لا هيكل كان يعرف باسم المرشح للرئاسة ولا هو تدخل لتغييره من شمس بدران إلى زكريا محيى الدين.. وصدقنا روايته التى نشرها بعد رحيل أو غياب أو صمت أبطالها حتى جاءت الوثائق المجردة لتنفيها.

وفى غياب الوثائق راجت رواية قتل عبد الحكيم عامر بالسم واختار مؤلفيها نوعا من السم (هو الأكونتين) لا يظهر فى التشريح حتى تصبح الرواية متقنة ولكن فى وجود محضر مجلس الوزراء يوم 17 سبتمبر 1967 نسمع الحقيقة بصوت وزير العدل عصام حسونة.

وهناك عشرات من الخرافات السياسية حان الوقت لتصحيحها دون حسابات شخصية واستنادا إلى وثائق رسمية يصعب التشكيك فيها.

وفى روايته لقصة الانقلاب الذى قاده ضباط من الجيش لإعادة المشير عبد الحكيم عامر إلى الجيش بعد الهزيمة يكشف عبد الناصر عن حقيقة لافتة للنظر: «إن كل المؤمرات التى دبرت لاغتيال عبد الناصر أو لقلب نظام الحكم بما فى ذلك محاولات الانقلاب داخل الجيش عرفت بالتبليغ بما فى ذلك مؤامرة الإخوان التى قادها سيد قطب عام 1965 ولم تتوصل إليها الأجهزة الأمنية بنفسها وهو أمر يحتاج إلى بحث وتفسير جعل عبد الناصر يتساءل عن مبرر رصد ميزانيات ضخمة إليها؟ بجانب سؤال آخر عن تصرفاتها المسيئة ضد كثير من المواطنين؟ ».

وفى محاضر اجتماعات عبد الناصر مع الرئيس الجزائرى هوارى بومدين بعد الهزيمة فى أغسطس 1967 نجده يتعجب من رفض أجهزته لمعلومات قدمها الروس عن عدد الفرق المدرعة فى إسرائيل والتشكيك فيها بدعوى أن الروس يهولون من قدرة إسرائيل العسكرية.

لكن.. الأهم فى هذه المحاضر تفسير عبد الناصر للهزيمة وما يمكن أن نتعلمه منها حتى لا نكرر الأخطاء ذاتها.

كانت هناك ثقة كبيرة فى النفس بأكثر مما نملك من قدرات وتبجحنا بالكلام حتى صدقنا أننا يمكن أن نحارب إسرائيل وأمريكا معا.

وكانت اختيارات المناصب بما فى ذلك قيادات الجيش طبقا لتقارير الأمن وبغض النظر عن الكفاءة وهو ما جعل كثيرا من الجنرالات يبقون فى أماكنهم رغم أدائهم المخزى فى مواقف عسكرية سابقة حتى جاءت الهزيمة لتكشف عن ذلك.

إن من الممكن الاستفادة من احتفالات مئوية عبد الناصر لو أحسنا الاستفادة منها ليس على طريقة عبادة الأصنام وتمجيد الحاكم الفرعون الإله وإنما بمعرفة ما كان لنضمن السير فى الطريق الصحيح لنصل إلى ما نريد.. فنحن دائما نبدأ من الصفر لأننا لا ننظر إلى الوراء لنفهم ما جرى.. وهذه فرصة لا يجب إهدارها أو الاكتفاء فيها بالألعاب النارية أو ذكر الأمجاد الشخصية.. فالهدف تغذية الذاكرة بمناهج موضوعية.. تعيننا على تفسيرات واقعية لما يحدث لنا وما يحدث حولنا.


توضيح وتأجيل:

أتوقف هذا العدد عن مواصلة نشر المحاضر السرية التي سجلت بصوت جمال عبدالناصر للتذكير بمئويته بعد خمسة شهور حتى لا تفاجئنا كما يحدث عادة لنا أو حتى لا تكون حجة للتعامل معها بطريقة عابرة لا تليق بها ولا بصاحبها.

كما أنها فرصة للاجتهاد فى تصور الاحتفال ومظاهره وسوف ننشر ما يأتى إلينا من مقترحات.

لكن الأهم أنها فرصة للتذكرة بالدروس التى خرجنا بها من تجربة عبد الناصر حتى لا نكرر أخطاءها.