حكايات المصريين فى لوكاندات الغلابة

العدد الأسبوعي

أرشيفية
أرشيفية


■ أغلب سكانها من عمال التراحيل.. يظهرون فى العاشرة مساءً ويذهبون إلى أعمالهم فى السادسة صباحًا

■ تجمعات كثيرة للنوبيين فى لوكاندة «المغربل».. وعم حسن مدير الغرف يجلس ليغنى معهم حتى الصباح


رغم وجود 27 محافظة بمصر ستظل القاهرة هى الأكبر والأكثر جذبًا، بحثا عن فرص العمل، فهى بالنسبة لأهل الأقاليم بديل لا بأس به عن السفر إلى الخارج، خاصة للفقراء الذين لا يملكون تأشيرة سفر إلى أى من دول الخليج.

ليس ذلك فحسب، بل تتسبب مركزية المحافظات إلى القاهرة؛ لاستخلاص الأوراق الرسمية أو الحصول على التصاريح اللازمة، ولكن هناك مشكلة واحدة تواجه الجميع بمختلف أسباب وجودهم بالعاصمة، وهى مشكلة السكن المناسب.

وهذا استثمره بعض المستثمرين قديماً، بإنشاء لوكاندات سكنية لهؤلاء النازحين للقاهرة، وحتى الآن ما زالت تلك اللوكاندات فى الخدمة ويقصدها البسطاء بسبب زهد ثمنها، وخاضت «الفجر» رحلة ميدانية داخل أشهر 3 لوكاندات بوسط البلد، وهى لوكاندات الشرق الكبرى بشارع كلوت بك.. المغربل بالعتبة.. الهلال بالفجالة.


1- الشرق الكبرى

يحتضنها مبنى آيل للسقوط فى بداية شارع «كلوت بك» من ناحية ميدان رمسيس، الأتربة تغطى اللوكاندة من الخارج، ولا تظهر للمبنى أى ملامح سوى الشرف الخشبية المتهالكة، المدخل الرئيسى المعد لاستقبال النزلاء ضيق للغاية، يقف على جانبه شاب أسمر فى العقد الثالث من عمره يرتدى ثياباً مهلهلة تنبعث منها رائحة كريهة، هذا الشاب لا يعرف من أصول استقبال الضيوف سوى سعر السرير فى الليلة، ذلك لأن اللوكاندة لا تقدم أى خدمات لنزلائها، هى مكان للنوم فقط.. حتى بدون تقديم المأكولات أو المشروبات.

خاضت «الفجر» تجربة الحصول على سرير فى إحدى غرف هذه اللوكاندة، اكتشفنا أن السعر 20 جنيها فى الليلة الواحدة، الغريب فى الأمر أن الشاب المسئول عن استقبال النزلاء لم يطلب أى إثبات شخصية منا، وأعطانا مفتاح غرفة رقم «3»، وطلب منا الصعود إلى الحوش الكبير حيث الغرفة، وعدم الالتفات لأى أصوات تصدر من الغرف المجاورة، السلم المؤدى للحوش ضيق للغاية وتحيطه الروائح الكريهة، الغرفة قريبة جدًا من الشارع، للدرجة التى تجعل أصوات سائقى ميكروباصات ميدان رمسيس ضيفاً ثقيلاً جدا غير مرغوب فى وجوده.

الغرفة تضم ثلاثة أسرة فى زاوية سرير، جدرانها متهالكة وألوانها كسر بهجتها «نشع المياه»، سقفها الخشبى افترسته الرطوبة حتى بات مصدر رعب لمن سينام تحته، فبين لحظة وأخرى ستفتح عينيك المرهقتين خشية سقوط السقف على رأسك المثقل بالهموم، نوافذ الغرفة تطل مباشرة على ميدان رمسيس، وتغلفها أسياخ حديدية لا تختلف كثيرا عن تلك الموجودة بالسجون، فى مشهد يمرر الحلق ويؤرق الذهن ويطرد النوم، الحوش يضم 6 غرف منفصلة ودورة مياه واحدة مشتركة بين كل النزلاء، وهى دورة مياه أقل ما توصف به أنها غير آدمية لا تطاق.

مع دقات الساعة العاشرة مساءً اقتحم أحد الأشخاص باب غرفتنا دون استئذان، ألقى علينا السلام ونظر إلينا مبتسمًا ولم ترتسم على وجهه أى ملامح تعكس مفاجأته من وجود نزيل غيره فى الغرفة، بدا جليا أن هذا الشخص الغريب بالنسبة لنا مقيم بنفس الغرفة منذ فترة كبيرة، وكأنه اعتاد تكرار هذا الموقف معه بشكل يومى، فتحنا حوارا مع ذلك الشخص عسى أن نحصل منه على خبايا ما يحدث باللوكاندة، هو شاب ثلاثينى يدعى سعيد عبد الله، جاء إلى القاهرة مسافرًا من محافظة قنا، يعمل كعامل «هدد» فى إحدى شركات المقاولات، ويقيم بهذه اللوكاندة إقامة كاملة منذ أربعة شهور تقريباً.

قال عبد الله: اللوكاندة مكانها متميز جدا، موقعها يتيح لى التحرك بسهولة، عندما أخرج صباحاً متوجهاً للعمل أجد وسائل مواصلات عديدة، وهذا السبب الأساسى فى تواجدى هنا، فأنا أخرج للعمل يوميا ما عدا الجمعة، وأقضى طوال اليوم بالعمل، وأعود هنا للنوم فقط، واقترب منا ذلك الشاب فى ترقب وهمس فى أذننا بقوله «نصيحة لله خبى فلوسك، أغلب نزلاء هذه اللوكاندة اتسرقت كل أموالهم وهواتفهم أثناء نومهم، هناك بعض اللصوص يندسون ليلاً أثناء خلود النزلاء فى النوم لسرقة متعلقاتهم، وكل يوم نستيقظ صباحاً على صراخ الضحايا، خلاص بقى عادى أنك تصحى كل يوم علشان تتفتش وتنام تانى».

وتمتم عبد الله وهو يستعد للنوم بكلمات غير واضحة، وعندما استفسرنا منه عن حقيقة ما يقول استشاط غضبا وقال: «اللوكاندة مليانة حشرات وفئران وسحالى، خلى بالك من نفسك.. ربنا يسترها»، وفى تمام الساعة الخامسة والنصف صباحاً، سمعنا صوت منبه هاتف محمول، معلنا استيقاظ ذلك الشاب من نومه الذى لم يدم لساعات، وبعد تأدية صلاة الفجر خرج عبد الله إلى عمله، وفى تمام الساعة السادسة والنصف غادرنا اللوكاندة، بعدما استيقظ أغلب نزلائها وغادروها على أمل العودة لها مع الساعات الأولى من صباح اليوم التالى طمعا فى النوم بعد يوم مرهق آخر.


2- المغربل

تجربة «الفجر» الثانية احتضنها فندق «المغربل» الموجود بمنطقة العتبة، بالقرب من شارع محمد على، يتميز الفندق بموقع مميز، حيث يطل على شارع تجارى كبير يضم العديد من المحلات التجارية، الفندق الشعبى كما يطلق عليه نزلاؤه يقع بالدور الثانى والثالث من العقار، مدخله متواضع للغاية وأضواؤه خافتة جداً، لكن المثير للدهشة أن أغلب نزلائه من مدينة النوبة.

موظف الاستقبال فى بدايات العقد الرابع من عمره، يدعى حسن، وعندما طلبنا منه الحصول على غرفة لقضاء ليلة واحدة فقط، قال بحدة «معندناش أوض فاضية، لكن ممكن أشوفلك سرير فاضى فى إحدى الغرف»، قاطعته متسائلا عن سعر السرير؟، فأجاب بأن سعر السرير ثلاثون جنيهاً فى الليلة الواحدة، وافقت ودفعت المبلغ المطلوب على الفور، بعد ذلك اصطحبنى حسن عبر ممر ضيق ومظلم حتى طرق باب غرفة رقم «1 مكرر» وفتح الباب، فوجدناها غرفة ضيقة جدا تحتوى على سريرين صغيرين وإضاءة ضعيفة، يقطنها رجل عجوز فى العقد السابع من عمره، متكئ على سرير بينما سأنام أنا على السرير المقابل له، سنتشارك نحن الاثنان هذه الغرفة تلك الليلة.

تركنا حسن موظف الاستقبال دون أن يتحقق أيضا من إثبات الشخصية، العجوز شريك الغرفة كان غير قادر على الكلام، وكلما أراد شيئاً أعطى لنا إشارات توحى بطلبه، ولكن هذا الوضع لم يستمر كثيراً، حيث خلد هذا الرجل إلى النوم سريعا.. حتى قبل أن تدق عقارب الساعة التاسعة مساءً، وفى الساعة الحادية عشرة قررت أن أكسر حدة الملل وأخرج إلى بهو الفندق،ففوجئت بعدد من النوبيين يفترشون الأرض بأمتعتهم، منتظرين أن يتكرم عليهم موظف الاستقبال ويوفر لهم غرفة واحدة فارغة كى يناموا بها هذه الليلة، ولكن بعد مرور أكثر من ساعة ونصف الساعة وبعدما فشلت كل مفاوضاتهم معه، بدأوا بدون مقدمات بالغناء باللغة النوبية، بينما أخرج البعض الآخر أوراق «الكوتشينة» ليلعبوا بها طوال الليل.

دورات المياه تنبعث منها الروائح الكريهة، ورغم ذلك اصطف أمامها النزلاء رجالا ونساءً فى طابور طويل، وبعد آذان الفجر قرر النزلاء الوضوء والصلاة فى جماعة، قبل خروجهم من الفندق سعيا وراء الرزق، وبسؤال أحدهم عن سبب نزوله فى هذا الوقت المبكر، أجاب بأن أماكن العمل بعيدة، لذلك يخرجون فى هذا التوقيت، بينما جلس آخرون على أرصفة الطرقات بمعدات هدم، منتظرين أصحاب الأعمال لاصطحابهم، لافتاً إلى أن معظمهم يعود دون أن يجدوا فرصة عمل تكفل لهم دفع ثمن السرير فى ذلك الفندق السيئ. بعد ذلك تم تجهيز وجبة إفطار تشارك فيها كل النزلاء تقريبا، كانت عبارة عن بيض وفول وطعمية، وبعد الانتهاء من تناول وجبة الإفطار، قسم السيدات أنفسهن إلى مجموعات، مجموعة منهن قررت الحديث وأخرى قررت تداول النكات التى تثير الضحك والسخرية من الأحوال التى أجبرت الجميع على قضاء حياته تحت سقف فندق غير آدمى، بينما قررت مجموعة أخرى الغناء والتصفيق، وتظل السيدات هكذا حتى يرجع أولادهن وأزواجهن من العمل.

3

الهلال

التجربة الثالثة كان من المفترض لها أن تكون فى لوكاندة الهلال بالفجالة، ولكن فشلنا فى الحصول على سرير بها على مدار يومين كاملين، تلك اللوكاندة التى قام الفنان نور الشريف بتصوير أحد مشاهد فيلمه «شحاتة أبو كف» بها، تقع بإحدى الحارات المتفرعة من شارع الفجالة من ناحية ميدان رمسيس.

قال محمد عبد الرحمن، أحد العاملين باللوكاندة، إن أغلب النزلاء يأتون من صعيد مصر، وأغلبهم عمال، ونسبة قليلة فقط منهم يقومون بحجز ليلة أو ليلتين، والباقى يحجز لفترات كبيرة تصل لخمسة وستة أشهر، مضيفاً أن سعر السرير فى الغرفة يصل إلى 25 جنيهاً، وفى الغالب تكون اللوكاندة خالية من زوارها نهاراً ومكتظة بهم ليلاً، وهناك قانون صارم يقضى بأن اللوكاندة غير مسئولة عن أغراض النزلاء وأموالهم، خاصة بعد انتشار حالات السرقة مؤخرا بين النزلاء وبعضهم، لذلك تكون الإدارة هنا خارج هذا الشجار تماماً، لأنها تقوم بالتنبيه على النزلاء بعدم ترك أغراضهم المهمة بالغرف.