مينا صلاح يكتب: أشرف واحد في الخمارة

مقالات الرأي

مينا صلاح
مينا صلاح


أغلق باب البار وأدار ظهره فسمع صوت المؤذن يكبر "الصلاة خير من النوم"، فاستحى من نفسه، وبكى من خشية ربه، ونكس في الأرض وجهه، قاصدًا أبواب المسجد، حيث أفاقه الله للحظات صعقت قلبه، فلم ينظر لحاله، ولا لرائحة فمه الكريهة، ولم يفكر سوى في لقاء ذو الجلال والإكرام.

لم يفارق البار يومًا، فاعتاد على التردد يوميًا، منذ أن كان مربيًا فاضلًا، نعم فاضلًا دون تعجب، فكان يلقن التلاميذ القيم صباحًا، ويرتمي في أحضان التوهان ليلًا، كان جاذبًا لكل من حوله، ببشرته السمراء، وروحه النوبية، وخفة ظله، ومداعبته لكل الحاضرين، فضلا عن كونه "برميل" ثقافة، ينضح بكل ما هو مفيد حين كان يدخل في مناقشة بجدية السكير.

لم اتخيل أبدًا أن يكون أول التائبين، المودعين سريعًا لهذا المكان، فقد كان أول الجالسين وآخر المغادرين، ولم يكف عن مناداة الـ"بارمان" بطلباته التي لم تنتهي يومًا، حتى أصبح علامة بارزة حين يتغيب يومًا واحدًا يهاتفه رواد المكان كافة ليطمئنوا عليه.

بكى عليه أحد رواد المكان يومًا حين داعبه أحدهم بنبأ وفاته، وسأل نفسه ما كم المحبة التي يحظى بها هذا العجوز في قلوبنا، وما الذي يدفعه للبكاء والإحساس بتلك الحرقة الشديدة حزنًا على فراقه، وظل يبحث ويسأل الجميع دون رد، فأحبه الجميع دون سبب واضح، لا لخفة دمه، ولا ظله، ولا لطيبته، وكان على ما يبدو أن هناك شيء يستحق التدقيق أكثر، والاكتراث في التمعن.

"من حبه ربه حبب فيه خلقه" سمعتها دومًا من جدتي، وظلت تلك الكلمات تطاردني لا تزاملني، حين كنت أراقب محبة والتفاف الجميع حوله، يا الله، هل يعقل أن تحب سكيرًا، لم تفارق يداه المنكر، وهل هو أقرب لك من باقي البشر، كانت أسئلة تجول في خاطري، دومًا، وعلى ما يبدو أن الله -سبحانه وتعالى- كان له مقصدًا وكان محبًا لهذا الرجل أكثر من كل الذين جلسوا حوله.

لم يكن يحتسي من باب الرفاهية، بل من باب الهروب الآمن من جحيم التجارب والضغوط التي تعرض لها، ولا يمكنني الجزم بأن ما كان يفعله على صواب، فقد كانت تحجب ضحكته نظرة انكسار وحسرة لم أكن أراها في وجه أحد من قبل، وكان يظل مبتسمًا طوال الوقت.

خلاصة القول، أن هذا الراجل كان يعيش ويتعايش بين الجميع، بنفس راضية، وبمحبة غامرة، وبنفس لا تعرف الشر، فلا تحكموا على الناس من مظاهرهم وأنتم على منابر عالية، ولا تولوا أنفسكم ملوكًا على أرواحهم، وخلاص نفوسهم، وعظوا بينهم بالحسنى، فهي تنفع، فالله إذا أحب أن يتبعه عبدًا تبعه، دون تجريح.