تفسير الشعراوي للآية 48 من سورة المائدة

إسلاميات

الشيخ محمد متولي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48)}.

وساعة نسمع كلمة (أنزلنا) نعرف أن هناك تشريعاً جاء من أعلى. وهناك من يريد أن يلبس الناس أهواءه، فيقول: إن الإسلام دين تقدمي، أو يقول: الإسلام دين رجعي، وكلاهما يحاول أن يلبس الإسلام بما ليس فيه، ونقول: لا تقولوا ذلك ولكن قولوا الإسلام فوقي؛ أنه جاء من الله، فإن كان للتقدمية مزايا فهو تقدمي، وإن كان للرجعية مزايا فهو رجعي، وإن كان لليمين مزايا فهو يميني وإن كان لليسار مزايا فالإسلام يساري؛ فقد جاء الإسلام بالاستطراق الاجتماعي والتقدم العلمي الأصيل؛ لأن مفهوم التقدم هو أن يرتقي الإنسان بنفيه ارتقاءً متقدماً يجعل الناس متكافئين.

إن الإسلام ليس تقدمياً فقط بالنسبة للحياة الدنيا ولكن بالنسبة لحياة أخرى خالدة فوق هذه الحياة. إن الذين يناقشون تلك الأفكار لا يحسنون فهم أفكارهم سواء أكانت تقدمية أم رجعية أم يمينية أم يسارية. ونرى أن المناهج المعاصرة التي تسبب كل هذا الصراع في الدنيا من شرق وغرب هي: الرأسمالية والشيوعية والاشتراكية والوجودية وغيرها.

وعندما ننظر- على سبيل المثال- إلى القائمين على أمر الثورة الشيوعية عام 1917، نجد قولهم: إنهم مازالوا في بداية الطريق إلى الشيوعية، ولكنه اختيار الطريق الاشتراكي.

كان يجب أن يتجهوا إلى ما نادوا به، ولكن ها نحن أولاء نرى أنهم كلما تقدموا في الزمن تراجعوا عن أفكارهم الأولى. حتى انقلبوا على أنفسهم. وذلك دليل على أن المنهج الذي اتخذوه لأنفسهم غير صحيح.

والمنهج الرأسمالي أظل كما هو؟ لا؛ لأن الأحداث قد اضطرت الرأسمالية أن تعطي العمال حقوقاً وبذلك لم تبق لرأس المال شراسته. كما سارت الشيوعية إلى معظم أساليب الرأسمالية. والرأسمالية سارت إلى بعض من أساليب الاشتراكية وهما- إذن- يريدان أن يلتقيا. ولكن الإسلام أوجد هذا اللقاء من البداية، فاحترم رأس المال، واحترم العمل. وكل إنسان لزم حدوده. وضمن وجود واستمرار حركة الحياة. ولذلك نجد أن الرأسمالية تقول: يجب أن توفر الحوافز للعمل. ولم تصل الشيوعية أيضا إلى مداها، بل قامت لإهدار حقوق الناس، ثم ماذا عن الذين لم تمتد إليهم يد الشيوعية- قبل أن توجد- وكان فيهم من يستغل الناس؟

كان العقل يحتم أن تؤمن الشيوعية بان هناك آخرة يعاقب فيها من استغلوا الناس من قبل، ومن مصلحتهم إذن أن توجد آخرة. وكان من اللازم أن يكونوا متدينين. وكذلك الرأسمالية التي لا تعترف إلا بالربح المادي، امتلأت مجتمعاتها بالضحايا الذين فقدوا المعنويات. وقول الحق: (أنزلنا) يعتبر أن هناك منهجاً نزل من أعلى. وحين نأخذ معطيات البيان القرآني، نجده سبحانه يبلغنا تعاليمه: {قُلْ تَعَالَوْاْ}. أي ارتفعوا إلى مستوى السماء ولا تهبطوا إلى حضيض الأرض.

ولذلك قال الحق: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق} ونرى أن آيات القرآن تتآزر وتخدم كل منها الأخرى. ونزول الكتاب بالحق يحتاج إلى صدق دليل أنه ينزل من الله حقا، وأن تأتي كل قوانين الحق في حركة الحياة بالانسجام لا بالتنافر، وهناك آية تشرح كلمة (الحق): {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإسراء: 105].

أي أنه نزل من عند الله وليس من صناعة بشر. {وبالحق نَزَلَ} أي نزل بالمنهج من عند الله الذي يقيم منطق الحق في كل نفس وكل مكان، ويَضمن كل حق يقيم حركة الحياة.

وهنا أجملت الآية، فقالت: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب} أي أن القرآن مصدق للكتب السماوية السابقة. وما الفارق بين كلمة (الكتاب) الأولى التي جاءت في صدر الآية، وكلمة (الكتاب) الثانية؟

إننا نعلم أن هناك (ال) للجنس، و(ال) للعهد، فيقال (لقيت رجلا فأكرمت الرجل)، أي الرجل المعهود الذي قابلته. فكلمة الكتاب الأولى اللام فيها للعهد أي الكتاب المعهود المعروف وهو القرآن، وكلمة الكتاب الثانية يراد بها الجنس أي الكتب المنزلة على الأنبياء قبله، فالقرآن مهيمنٌ رقيبٌ عليها؛ لأنها قد دخلها التحريف والتزييف.

كلمة (الحق)- إذن- تعني أن كتاب الله الخاتم لكتبه المنزلة وهو القرآن قد نزل بالحق الثابت في كل قضايا الكون ومطلوب حركة الإنسان. ونزل بالحق بحيث لم يصبه تحريف ولا تغيير.

إذن فالحق هو في مضمونه وفي ثبوت نزوله. وقد نزل القرآن بعد كتب أنزلها الله متناسبة مع الأزمنة التي نزلت فيها؛ لأنه سبحانه خلق الخلق لمهمة أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن يعمروا هذا الكون بما أمدّهم به من عقل يفكر، وطاقات تنفّذ، ومادة في الكون تنفعل، فإن أرادوا أصل الحياة مجرداً عن أي ترقٍ أو إسعاد فلهم في مقومات الأرض ما يعطيهم، وإن أرادوا أن يرتقوا بأنفسهم فعليهم أن يُعملوا العقل الذي وهبه الله ليخدم الطاقات التي خلقها الله في المادة التي خلقها الله، وحينئذ يأخذون أسرار الله من الوجود.

إن أسرار الله في الوجود كثيرة، وتفعل لنا وإن لم نعرف نحن السر. فنجد الجاذبية التي تمسك الأفلاك تفعل لنا، وإن لم نكن قد اكتشفنا الجاذبية إلا أخيراً. والكهرباء السارية في الكون سلباً وإيجاباً تعمل لنا وإن لم نعرف ما تنطوي عليه من سرّ.

إن الحق سبحانه حين يريد ميلاد سر في الكون سبحانه يمد الخلق بأسباب بروز هذا السر. واعلموا أن كل سر من أسرار الكون المسخر للإنسان له ميلاد كميلاد الإنسان نفسه، إما أن يصادف- هذا الميلاد- عمل العقل في مقدمات تنتهي إليه، وحينئذ يأتي الميلاد مع مقدمات استعملها البشر فوصلوا إلى النتيجة، تماماً مثل التمرين الهندسي الذي يقوم الطالب بحله بعد أن يعطيه الأستاذ بعضاً من المعطيات، ويستخدمها التلميذ كمقدمات ليستنبط ما يريد المدرس أن يستنبطه من مطلوب الإثبات.

فإن صادف أن العقل بحث في الشيء معملياً وتجريبياً وصل ميلاد السر مع البحث، وإن جاء ميلاد السر في الكون، ولم يشغل الإنسان نفسه ببحث مقدمات توصل إليه، وأراد الله ذلك الميلاد للسر فماذا يكون الموقف؟
أيمنع الله ميلاد السر لأننا لم نعمل؟. لا. بل يخرج سبحانه السر إلى الوجود كما نسمع دائماً عن مصادفة ميلاد شيء على يد باحث كان يبحث في شيء آخر، فنقول: إن هذا السر خرج إلى الوجود مصادفة.

وإذا نظرت إلى الابتكارات والاختراعات وأمهات المسائل التي اكتشفت لوجدتها من النصف الثاني، ونجد المفكر أو العالم وقد غرق في بحث ما، ثم يعطيه الله سراً من أسرار الكون لم يكن يبحث عنه، فيقال عن الاكتشاف الجديد: إنه جاء مصادفة، وحينما جعل الله لكل سر ميلاداً، فهو قد أعطى خلقه حياة من واسع فضله، وأعطاه قدرة من فيض قدرته وأعطاه علماً من عنده {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً}، ووهبه حكمة يُؤتى بها خيرا {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}. وهو سبحانه وتعالى يريد من خلقه أن يتفاعلوا مع الكون ليبرزوا الأشياء، وإذا كان سبحانه يريد منا أن ننفعل هذا الانفعال فلابد أن يضع المنهج الذي صون طاقاتنا وفكرنا مما يبددهما.

والذي يبدد أفكار الناس وطاقاتهم هو تصارع الأهواء، فالهوى يصادم الهوى، والفكرة قد تصادم فكرة، وأهواء الناس مختلفة؛ لذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضمن لنا اتفاق الأهواء حتى نصدر في كل حركاتنا عن هوى واحد؛ وهو ما أنزله الخالق الأعلى الذي لا تغيره تلك الأهواء. أما ما لا تختلف فيه الأهواء فتركنا لكي نبحث فيه؛ لأننا سنتفق فيه قهراً عنا. ولذلك نقول دائما: لا توجد اختلافات في الأفكار المعملية التجريبية المادية، فما وجدنا كهرباء روسية، وكهرباء أمريكية لأن المعمل لا يجامل. والمادة الصماء لا تحابي. والنتيجة المعملية تخرج بوضوحها واحدة.

إننا نرى اتفاق العلماء شرقاً وغرباً في معطيات المادة التجريبية وتحاول كل بلد أن يسرق من البلد الآخر ما انتهى إليه من نتائج لتدخلها على حضارتها، بينما يختلف الأمر في الأهواء البشرية، فكل بلد يحاول أن يبعد هوى الآخر عن حدوده؛ لأن الأهواء لا تلتقي أبداً، والحق قد وضع حركة الحياة لتنفعل ب (افعل كذا) و(لا تفعل كذا) مما تختلف فيه الأهواء ليضمن اتحادنا وعدم تعاند الطاقات فينا. بل تتساند معاً. {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].

إذن فمنهج الله في كونه إنما جاء لينظم حركة الإنسان فيما تختلف فيه الأهواء. أما الحركة فيما لا تختلف فيه الأهواء فقد تركها سبحانه حرة طليقة: لأن البشر يتفقون فيها قهراً عنهم، لأن المادة لا تجامل والمعمل لا يحابي.
ولذلك قلنا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله نبياً خاتماً أعطى ب (افعل ولا تفعل). أما بالنسبة للأمر المادي المعملي فقد جعل أمره في ذات النبي صلى الله عليه وسلم. فعندما قَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان أهلها يأبرون النخل؛ أي يلقّحونه ليثمر. فمر النبي صلى الله عليه وسلم بقومٍ يلقحون فقال: (لو لم تفعلوا لصلح).

فلم يأْبُروا النخل، فخرج شيصا؛ أي بُسْراً رديئاً، وخاب النخل. ومرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا. فقال صلى الله عليه وسلم: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل".

وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيءٍ من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر".

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلنها قضية كونية مادية تجريبية معملية: «أنتم أعلم بأمر دنياكم». أي أنه صلى الله عليه وسلم ترك للأمة إدارة شئونها التجريبية، ولم يكن ذلك القول تركا للحبل على الغارب في شئون المنهج، فقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفيصل فيما تتدخل فيه السماء، وفيما تتركه السماء للبشر، وأعمار الناس- كما نعلم- تختلف، فنحن نقول للإنسان طفولة، وله فتوة، وشباب، وله اكتمال رجولة ونضج؛ لذلك يعطي الحق من الأحكام ما يناسب هذا المجتمع؛ يعطي أولاً الاحتياج المادي للطفولة، وعند عصر الفتوة يعطيه المسائل الإدراكية، وعندما يصل إلى الرشد يعطيه زمام الحركة في الكون على ضوء المنهج، فكانت رسالة الإسلام على ميعاد مع رشد الزمان، فَأَمِن الحق سبحانه أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، أن يقفوا ليحموا حركة الإنسان من أهواء البشر. وكانت الرسل تأتي من عند الله بالبلاغ للمجتمعات البشرية السابقة على الإسلام. وكانت السماء هي التي تؤدب. ولكن عندما اكتمل رشد الإنسانية، رأينا الرسول يبلغ، ويوكِّله الله في أن يؤدب من يخرج على منهج الله في حركة الحياة، لأنه صلى الله عليه وسلم أصبح مأموناً على ذلك.

وإذا نظرت إلى الكون قديماً لوجدته كوناً انعزالياً، فكل جماعة في مكان لا تعلم شيئاً عن الجماعة الأخرى، وكل جماعة لها نظامها وحركتها وعيشها وداءاتها.

والإسلام جاء على اجتماع للبشر جميعاً. فقد علم الله أزلاً أن الإسلام سيجيء على ميعاد مع إلغاء فوارق الزمن والمسافات، وأن الداء يصبح في الشرق فلا يبيت إلا وهو في الغرب، وكذلك ما يحدث في الغرب لا يبيت إلا وهو في الشرق.

إذن فقد اتحدت الداءات ولابد أن يكون الدواء واحداً فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جامعاً للزمان وجامعاً للمكان ومانعا أن يجيء رسول آخر بعده، وأن العالم قد وصل إلى قمة نضجه. فإذا ما جاء الإنسان ليعلم منهج الله ب (افعل) و(لا تفعل)، وجد أن المنهج محروس بالمنهج، بمعنى أن الكتب السابقة على القرآن فيها (افعل) و(لا تفعل)، والقرآن أيضاً فيه (افعل) و(لا تفعل) لكن المنهج السابق على القرآن كان مطلوباً من المنزل إليهم أن يحافظوا عليه، ومادام قد طلب الحق منهم ذلك فكان من الواجب أن يتمثلوا لطاعته لكنهم تركوا المنهج. فكل منهج عرضة لأن يطاع وعرضة لأن يعصى، ولم يحفظوا الكتب وحدث فيها التحريف بمراحله المختلفة والتي سبق أن ذكرناها وهي النسيان وهو متمثل في قوله الحق: {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} [المائدة: 13].

وما لم ينسوه كتموا بعضه، فقال الحق فيهم: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ ما أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب أولئك يَلعَنُهُمُ الله} [البقرة: 159].

وما لم يكتموه حرفوه ولووا ألسنتهم به وقال الحق: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب} [آل عمران: 78].

ولم يقتصروا على ذلك بل وضعوا من عندهم أشياء وقالوا إنها من عند الله. وكان أمر حفظ كتب المنهج السابقة موكولاً لهم وبذلك قال الحق عنهم: {بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله} [المائدة: 44].

أي أن الحق طلب منهم أن يحافظوا على المنهج، وكان يجب أن يطيعوه ولكن أغلبهم آثر العصيان. فلما عصى البشر المنهج، لم يأمن الله البشر من بعد ذلك على أن يستحفظهم على القرآن، وكأنه قال: لقد جُرّبْتم فلم تحافظوا على المنهج، ولأن القرآن منهج خاتم لن يأتي له تعديل من بعد ذلك فسأتولى أنا أمر حفظه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

ومادام الحق هو الذي يحفظ المنهج فالقرآن مهيمن على كل الكتب؛ لأنه سبحانه وتعالى قد ضمن عدم التحريف فيه. إذن فالكتاب المهيمن هو القرآن، ومادام القرآن هو المهيمن فهو حقيقة ما يسمى بالكتاب.

ودليل العهد هو قول الحق: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب} أما قوله: {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب} فالمقصود به الزبور والتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى، ثم جاء القرآن مهيمناً على كل هذه الكتب.

وساعة نجد وصفاً وصف به غير الله وسمى به الله نفسه فما الموقف؟ نعرف أن لله صفات بلغت في تخصصها به مقامها الأعلى بالله، مثل قولنا: (الله سميع) والإنسان يسمع، و(الله غني) ويقال: (فلان غني)؛ فإذا سمي الحق باسم وجد في الخلق، فليس من المتصور أن يكون هذا صفة مشتركة بين العبد والرب، ولكننا نأخذ ذلك في ضوء: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.

إن أي اسم من هذه الصفات على إطلاقه لا ينصرف إلا لله، فإن قلت: (الغني) على إطلاقه فهو اسم لله، وإن قلت: (الرحيم) على إطلاقه فهو اسم لله. فإذا أطلق اللفظ من أسماء الله على اطلاقه فهو لله، واسم (المهيمن) يطلق هنا على القرآن وهو اسم من أسماء الله. ومن معنى (مهيمن) أنه مسيطر.

ومن أمثلة الحياة أننا نرى صاحب مصنع يطلق يد مدير في شئون العمل، وهذا يعني أنه مؤمن ومسيطر وأمين، ولابد أن متنبه، أي رقيب، وهو شهيد، إذن فالذين فسروا كلمة (مهيمن) على أنه مؤمن قول صحيح.

والذين فسروا كلمة: (مهيمن) على أنه (مؤتمن) قول صحيح. والذين فسروا كلمة: (مهيمن) بأنه (رقيب) قول صحيح. والذين فسروا كلمة: (مهيمن) بأنه (شهيد) قول صحيح. والذين فسروا كلمة: (مهيمن) بأنه قائم على كل أمر قول صحيح. وإذا رأيت الاختلافات في تفسير اسم واحد من أسمائه سبحانه فلتعلم أن الحق بصدق عليه كل ذلك، وباللازم لا يكون (رقيباً) إلا إذا كان (شهيداً)، ولا يكون شهيداً إلا إذا كان قائماً على الأمر، ولا يكون كل ذلك إلا إذا كان مؤمناً ومؤتمنا.

إذن ف (مهيمن) هو قيم وشاهد ورقيب. ومادام القرآن قد جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب فعلى أي مجال يهيمن؟ نحن نعرف مدلول الكتاب بأنه نزل من عند الله، فإن بقي الكتاب الذي من عند الله كما هو فالقرآن مصدق لما به، أما إن لعبت في ذلك المنهج أهواء البشر فالقرآن مهيمن لأنه يصحح المنهج وينقيه من أهواء البشر، {فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله}. و(احكم) مأخوذة من مادة (حكم)، و(الحَكَمة) هي قطعة الحديد التي توضع في فم الحصان ونربطها باللجام؛ حتى نتحكم في الحصان. والحكمة هي الأ تدع المحكوم يفلت من إرادة الحاكم.

وحين يقول الحق: {فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله} فهل يحدث ذلك أيضا مع غير المؤمنين؟ نعم. فإذا ما جاء إليك يا رسول الله أناس غير مؤمنين وطلبوا أن تحكم بينهم فاحكم بما أنزل الله. ولذلك قال الحق: {فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42].

لكن لماذا جاءوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم برغم عدم إيمانهم به؟

جاءوا إلى الرسول ليحكم بينهم؛ لأنهم ألفوا أن يبيحوا ما حرم الله بشهوات الدنيا وأخذوا لأنفسهم سلطة زمنية، وماداموا قد أخذوا لأنفسهم سلطة زمنية أنستهم حكم الله. وأرادوا- على سبيل المثال- أن يخرجوا على حكم الرجم وتخفيفه، ولذلك ذهبوا إلى النبي، فإن حكم هو بالتخفيف أخذوا بالحكم المخفف، وإذا لم يحكم بالتخفيف فهم لن يأخذوا الحكم، هم ذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم بقصد التيسير وقالوا له: أنت تعلم أن لنا سلطاناً وأن لنا نفوذاً ونحن نريد أن تحكم لنا لأنك عندما تحكم لنا سنؤمن بك وبعد ذلك تأتي إليك باقي جماعتنا ليؤمنوا بك ويتبعوك.

لقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك تطبيقاً لقول الحق: {فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} فإذا كان عندهم كتاب التوراة مصوناً من التحريف، فالرسول يشير عليهم بالحكم الموجود في التوراة، ولذلك عندما استدعى صلى الله عليه وسلم أعلم علمائهم بالتوراة حاول بعضهم أن يضع يده على السطور التي بها الحكم؛ فالحكم بما أنزل الله يكون من التوراة إن لم يبدل، أما إذا كان الحكم قد بدله الناس فالحكم من القرآن؛ لأن القرآن هو المهيمن. {فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} لأنهم بهذه الأهواء يريدون أن ييسروا على أنفسهم ليستبقوا لأنفسهم السلطة الزمنية، ووصفهم الحق: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً} [التوبة: 9].

هم- إذن- يريدون أن يستبدلوا بآيات الله مصلحتهم في الحكم. ويقول الحق: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحق لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}، وإن افترضنا أن بعضا من التوراة لم يحرف، وبه حكم أراد الإسلام أن يبدله، فأي أمر يتبع؟ إن الاتباع هنا يكون للقرآن لأنه هو المهيمن، فسبحانه أراد بالقرآن أن يصحح ويعدل ويغير، إن مناهج الأديان في العقائد ثابتة لا تغيير فيهان وأما ما يتصل بالأحكام التي تحكم أفعال الإنسان فالله سبحانه وتعالى ينزل حكماً لقوم يلائمهم ثم ينزل حكما آخر يلائم قوماً آخرين. ولذلك نجد أن سيدنا عيسى قال: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50].

أي أن هناك أشياء كانت محرمة في دين اليهود. وجاء عيسى عليه السلام ليحلل بعضاً من هذه المحرمات، وكان التحريم مناسباً بني إسرائيل في بعض الأمور، وجاء المسيح عيسى ابن مريم ليحلل لهم بعضاً من المحرمات، وكان تحريم بعض الأمور لبني إسرائيل بهدف التأديب: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160].

إذن فقد يكون تحريم الشيء بسبب الضرر الناشئ منه، أو بهدف التأديب؛ لأن الإنسان أحل لنفسه ما حرمه الله عليه.

{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} والشرعة هي الطريق في الماء. والمنهج هو الطريق في اليابسة. ومقومات حياة الإنسان هي من الماء ومن الغذاء الذي يخرج من الأرض فكذلك جعل الحق سبحانه وتعالى في القيم هذين الاثنين، الشرعة والمنهاج، ومادام سبحانه قد جعل لكل منا شرعة ومنهاجاً، فلماذا قال في موضع آخر من القرآن: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13].

معنى هذا القول هو الاتفاق في أصول العقائد التي لا تختلف أبداً باختلاف الأزمان. ففي بدء الإسلام نجد أنه جاء ليؤصل العقيدة أولاً بلا هوادة، فنادى بوحدانية الله، وعدم الشرك به، وصفات الكمال المطلق فيه، وعدم تعدد الآلهة. أما بقية الأحكام الفعلية فقد جعلها مراحل. وكان يخفف قليلاً فقليلاً. إذن فالمراحل إنما جاءت في الأحكام الفعلية، أما العقائد فقد جاءت كما هي وبحسم لا هوادة فيه.

إذن فقوله الحق: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً}. هذا القول مقصود به العقائد. ومادام قد شرع لنا في الدين ما وصى به نوحاً، فهذا توصية بأفعال تتعلق أيضا بزمن نوح، وسبحانه الذي وضع لنا المنهاج الذي نسير عليه في زماننا. إذن فالأمران متساويان. والمهم هو وحدة المصدر المشرِّع.

ويقول الحق: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}. فلو شاء لجعل (افعل) ولا (تفعل) واحدة في كل المناهج، ولكن ذلك لم يكن متناسباً مع اختلاف الأزمان والأقوام الانعزالية قبل الإسلام بداءاتها المختلفة؛ لذلك كان من المنطقي أن تأتي الأحكام مناسبة للداءات. {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} [المائدة: 48].

وسبحانه وتعالى لو شاء لجعلنا أمة واحدة في (افعل) و(لا تفعل) ولكنه سبحانه لم يرد ذلك حتى لا يألف الناس العبادة وتصير كالعادة عندهم، فحينما يألف الناس أداء العبادات، فهم بذلك يحرمون لذة التكليف والإيمان، فكان لابد أن يأتي التشريع مناسبا لكل زمان. وذلك ليفرق بين قوم وقوم ففي الصوم- على سبيل المثال- نجد أن الحق يسمح لنا بالطعام والشراب والجنس في الفترة ما بين الإفطار والسحور؛ فالحق يأتي إلى الشيء الرتيب ويأتي فيه أمر الله بالامتناع عنه لفترة زمنية معينة. ولا يقرب المؤمن هذه المحرمات في زمان معين، ولا يقرب غيرها في أي زمان ومكان. مثل شرب الخمر، أو أكل لحم الخنزير. والمؤمن لا يقرب هذه الأشياء بطبيعة اختياره. ويأتيه الصوم ليعلمه ويدربه على الانصياع للتكليف فيحرمه الحق من الطعام طول نهار شهر رمضان وكذلك الشراب والجنس.

المسألة- إذن- ليست رتابة أبداً. بل هي ابتلاء واختبار البشر {ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتَاكُم} والابتلاء- كما نعلم- ليس أمراً مذموماً في ذاته، هو مذموم باعتبار ما تؤول إليه نهايته، ومادام سبحانه يبتلينا فيما آتانا فيجب أن نكون حكماء وأن نتسابق إلى الخير: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48].

والتسابق إلى الخيرات إنما يكون بهدف النجاح في الإبتلاء، والنجاح يعطينا أكثر مما ننال بعدم الانصياع. إذن فالابتلاء في مصلحتنا يعطي الناجحين فيه نجاحاً أخلد، وقصارى ما يزينه الشيطان للناس أو ما تتخيله نفوس الناس، أن تمر الشهوة العابرة وتنقضي في الدنيا العابرة. وبعد ذلك يأتي العذاب المقيم. وعندما نوازن هذا الأمر كصفقة نجدها خاسرة، لكن إن نجحنا في ابتلاء الله لنا فذلك هو الفوز العظيم: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.

أي تسابقوا في الوصول إلى الخيرات، لأن الخير إنما يقاس بعائده، فإياكم أن تفهموا أن الله حَرَمكم شهوات الدنيا لأنه يريد حرمانكم، ولكنه حرمكم بعضا من شهوات الدنيا لأنها مفسدة. وكان التحريم لزمن محدود ليعطيكم نعيم ومتع الآخرة المُصلحة في زمن غير محدود، وهذا هو كل الخير.

{إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} والكل يرجع إلى الله سواء الملتزم أو المنحرف، وأمام الحق نرى القول الفصل: {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. ومادام هناك اختلاف فلابد أن يوجد من أخذ جانب الخير ومن أخذ جانب الشر، ولو أن الله قال لنا: (ستأخذون الخير) وسكت عن الشر لكان ذلك كافياً، لكنه يعطينا الصورة الكاملة. ويتبع ذلك قول الحق: {وَأَنِ احكم...}.