د. نصار عبدالله يكتب: فى ذكرى رحيل على سالم

مقالات الرأي



خلافنا السياسى الشديد مع على سالم، ورفضنا القاطع لزيارته المشئومة للكيان الإسرائيلى العنصرى الغاصب، لا ينبغى أن ينسينا لحظة واحدة أنه مبدع موهوب نادر الموهبة.. وأنه مجتهد أخطأ، حتى ولولم يعترف بالخطأ، وظل حتى آخر لحظة فى حياته يدافع عما فعل!.. بعيدًا عن السياسة (وعلى المستوى الإنسانى الخالص فإن على سالم قصة نادرة من قصص الكفاح.. نشأ فى أسرة دمياطية فقيرة مما حال بينه وبين التعليم الجامعى، لكنه قام بتثقيف نفسه ثقافة رفيعة يندر أن نجد لها مثيلا بين كتاب المسرح أو كتاب المقال، ناهيك عن الممثلين والمخرجين كان على سالم مخرجا موهوبا وممثلا موهوبا أيضا، ولا أدرى لماذا لم يشتهر باعتباره كذلك، رغم أنه شارك نور الشريف بطولة: سهرة مع الضحك، وكان ندا له بلا جدال).. ولقد ظل على سالم منذ أواخر الخمسينيات وفى أوائل الستينيات يعمل فى فرق مسرحية إقليمية محدودة الانتشار قبل أن يجد عملا فى مسرح العرايس وينتقل من دمياط إلى الإقامة فى القاهرة، لكنه ابتسم له الحظ عندما تقدم إلى مسابقة للتأليف المسرحى أعلنت عنها الهيئة العامة للمسرح وفاز فيها بالجائزة الأولى، وكانت قيمة الجائزة 300جنيه وهو مبلغ كبير بمقاييس تلك الفترة أولا، وثانيا بمقاييس شخص لم يحدث قط أن تجاوز ما فى جيبه عشرين جنيها!، وحتى هذه، لم يكن وجودها فى جيبه متاحا دائما.. يوم أن قبض الجائزة دعا صديقه محمد بركات (وهو ناقد كان يعمل فى دار الهلال،)، إلى تناول الطعام فى أحد المطاعم الشهيرة..وحين جاءهما الجارسون قائلا: طلبات الباشوات إيه ..أجابه على سالم بصوت مشحون باللهفة.. لحمة عايز لحمة!..عرفت على سالم فى أواخر الستينيات من القرن الماضى، وتوثقت عرى المودة بيننا، وتكررت دعواته لى لمشاهدة أعماله الجديدة طالبا منى فى كل مرة أن أحدد له الموعد الذى أرغب فيه فى الحضور، لكننى لم أحدد له موعدا قط، كنت أدفع ثمن تذكرة الدخول كأى مشاهد، ثم أفاجئه عندما نلتقى على المقهى أو فى دار الأدباء بأننى قد شاهدت العرض ثم أبدى له ملاحظاتى عليه، وكان هذا يسعده سعادة لا يستطيع كتمانها.. لا أنسى يوم أن وجه إلى الدعوة أنا وصديقى الكاتب الساخر محمد مستجاب لكى نزوره فى منزله لأنه كان كما قال شديد الرغبة فى أن يعرف رأينا فى نص مسرحى جديد فرغ توا من كتابته، ومضيت أنا ومستجاب إلى شقته بالمهندسين، حيث استمعنا إلى أداء صوتى مكتمل لمسرحية: عملية نوح، لم يكن على يقرأ، ولكنه كان يؤدى ويعبر بحركات يده وملامح وجهه عن كل لحظة من لحظات المسرحية الخلابة التى يمزج فيها بين قصة نوح ومحاولة إنقاذ مكونات روح مصر قبل أن يغمرها الفيضان الجارف المتوقع!.. يومها أعدت لنا زوجته الفاضلة غداء بسيطا لكنه كان شهيا جدا، شأنها فى ذلك (رحمها الله) شأن أى طاهية دمياطية ماهرة!، وحين خطر على سالم أن يزور إسرائيل شعرت بالصدمة الشديدة، وواجهته بأن ما قام به خطأ فادح يرقى إلى مرتبة الخطيئة أو ما هو أكثر، لكنه كان مستمسكا بأن ما فعله كان اجتهادا صائبا، وهو ما أدى إلى فتور فى العلاقة المتينة التى كانت تربطه بى وبمحمد مستجاب، لكننى رغم ذلك حرصت على ألا تنقطع العلاقة الإنسانية بيننا، فأنا وإن كنت من المؤمنين بمقاطعة كل ما هو عنصرى وكل ما هو صهيونى، فلست من الذين يؤيدون أن يقاطع العرب بعضهم البعض، ولا أن يقاطع المصريون المصريين، ناهيك عن أن نقاطع نحن الأصدقاء أصدقاءنا.. فى عام 1995..كنت مرشحا لمجلس إدارة اتحاد الكتاب، وحين جاء على سالم ليدلى بصوته فوجئ بمقاطعة عارمة من الكتاب الذين كانوا جميعهم تقريبا يشيحون بوجوههم عنه، وكان المرشحون أكثر الذين يشيحون، لكننى يومها تمسكت بمبدأى: لن أتنكر لصديق أخطأ فى اجتهاده، وعانقته عناقا حارا، واغرورقت عيناه يومها بالدموع (أظن أن ماجال بذهنه هو أنى لا أبيع الصداقة من أجل الأصوات الانتخابية!)، وبالمناسبة فزت فى تلك الانتخابات فوزا مبينا!. رحم الله على سالم وغفر له، ذلك أنه لا يبقى من المبدع رغم كل شىء إلا الإبداع الجميل، ولقد كان إبداعه جميلاً.