د. رشا سمير تكتب: "مانغويل".. الأديب الذى اقتحم باب الفضول بـ"الكوميديا الإلهية"

مقالات الرأي



بمنظور فلسفى عميق رصف طريقًا لا نهائيًا بين السؤال والإجابة


هناك وسائل من الترفيه موجودة دائما بمعسكرات الأطفال، وسائل بعيدة عن القفز واللهو والسباحة، وسائل أكثر لذة من مسابقات التزلج على الرمال ومحاولات إشعال النار من قطع الخشب الصغيرة فى الجبال، إنه ترفيه من نوع آخر.

إنها تلك اللحظة التى يقترب فيها هذا الطفل من السلك الكهربائى المكشوف ويسأل نفسه: ماذا سيحدث لو أمسكت بهذا السلك، هل أجرؤ على ذلك أم لا، وهل سأبقى حيا بعدها؟! إنها تلك اللحظات التى تقفز كل الأفكار إلى عقله الصغير، وتتحول متع الدنيا بأسرها إلى متعة واحدة.. هى متعة الفضول.

الفضول يخلقه حرصنا على الحياة، ولو أنه مفهوم أحيانا ما يكون مخاطرة كبيرة، إلا أنه يخلق لدينا قدرة كبيرة على الفهم والتحكم، إن الفضول هو أساس كل الحضارات التى تعاقبت على الإنسانية منذ بدء الخليقة.

الحقيقة هى أن الفضول لم يقتصر فقط على الإنسان، بل هو أيضا من الخصائص الحيوانية، فالحيوانات تستعمل فضولها لتتعلم وتتعامل مع البيئة المحيطة، يسكنها فضول جارف وتتحسس ما حولها بكل حرص، فقط لتتعلم، وما زالت المقولة الشهيرة: «الفضول قتل القطة»، هى أكثر مقولة معبرة عن هذا الشعور الإنسانى المختلف.

تلك هى فكرة الكتاب الشيق الذى كتبه الأديب ألبرتو مانغويل، الذى ولد عام 1948 فى مدينة بوينس آيرس، وهو أرجنتينى المولد كندى الجنسية، يعمل كجامع للأعمال الأدبية المهمة، وهو أيضا مترجم ومحرر وروائى وكاتب مقالات، الكتاب يحمل عنوان (الفضول)، وقام بترجمته الكاتب والمترجم السورى إبراهيم قعدونى، لتقوم بنشره دار الساقى للنشر فى 415 صفحة من القطع الكبير.

لقد قام بإهدائى هذا الكتاب صديق عزيز أثق فى رأيه وترشيحاته للقراءة، قال لى إنه كتاب يدعو للتفاؤل والبهجة، الحقيقة معه ألف حق، فالكتاب به ألف سبب للسعادة، وها أنا ذا.. أقوم بدورى بنشر أسباب تلك السعادة عليكم، علها تأخذكم من همومكم إلى عوالم أكثر رحابة وتفاؤلًا وفضولية.


1- دانتى المُعلم

بعد سبعمائة عام على صدوره، هل أصبح (الكوميديا الإلهية) كتاب الكتب لدى مانغويل؟، بحسب مانغويل، فإن الكوميديا الإلهية ربما قُرئت على سبيل الفضول الإنسانى، ولكنها ليست الحجة الوحيدة لقراءته، لعل الكتاب كان الخلاص للكثيرين أو سبب إيمانهم بشىء لم تتح لهم فرصة الإيمان به.

يبدأ الكاتب مقدمته بسؤال: هل ممكن أن يقرأ المُلحد دانتى أو مونتين من دون أن يؤمن بالإله الذى كانا يعبدانه؟، ويطرح طرحا آخر بقوله: «ليس من الضرورى أن تكون سندريللا أو ليلى (فى حكاية ليلى والذئب) شخصيات حقيقية لكى أصدق ما جاء فى حكايتيهما.

وانطلاقا مما أعرفه عن نفسى من عجرفة، خطر لى، على غرار ما حظى به دانتى من مرشدين لأسفاره، مثل فيرجيليو وتساتشيوس وبياتريشى أن أتخذ من دانتى نفسه مرشدا لأسفارى، وأن أترك تساؤلاته تقود تساؤلاتى، وأنا على ثقة من أن دانتى لن يتردد بمد يد العون لزميل أسفار يتمتع بالقدر الكافى من الشك المتفق عليه.

إذا كان الكاتب الأرجنتينى ألبرتو مانغويل هو (فضولى الفضول)، مثلما أكد فى بداية كتابه، فهذا لأنه يطرح أسئلة، وتلك الأسئلة بالتالى محرك تفسيراته الأدبية، تعليقاته، ملاحظاته، شكوكه أيضاً، التى لا يمكننا إنكار أهميتها.


2- الدافع إلى الفضول

إذن فهناك دائما دافع إلى الفضول، أو طريق يقودنا إليه، إما بالتحفيز وإما بالطبيعة، هكذا سرد مانغويل ذات يوم للأطفال؛ لكى يحثهم على المطالعة: (فى مكتبتى، هناك صفحة على الأقل مكتوبة لأجلكم، لا أعرف مكانها فى أى كتاب، وعليكم العثور عليها)، ومن هنا قرر الأطفال الانطلاق بدافع الفضول، يبحثون عن تلك الصفحة التى تحمل مصيرهم وصورتهم خلال زيارتهم لمكتبته الشهيرة، ذلك الشغف الذى سوف يظل دوما هو بوابة دخول أى كاتب إلى قلوب قرائه.

«الأدب ليس إجابة تمنحنا العالم، وإنما بالأحرى كنزًا من الأسئلة العديدة والمثلى»..

ولذلك، مهما كبرنا نظل دوماً أصغر من الضخامة الأدبية، ونظل أبدا فى رحلة البحث عن المعانى فى عالم الأدب بدافع الفضول.


3- بين السؤال والجواب

تتنوع فصول الكتاب ما بين مجموعة من الأسئلة، التى تدور حول مفهوم الفضول،

تبدأ بأسئلة مثل: كيف نُفكر، من أنا، أين مكاننا، ما الذى يجعلنا مختلفين، كيف نرتب الأشياء، ما هى اللغة، كيف يمكننا رؤية ما نفكر فيه، لم تحدُث الأشياء؟.

إنه عمل متشعب وعميق فى فكرته المختلفة، نلتقى فيه مجموعة كبيرة من الفلاسفة والمفكرين مثل: سقراط، وزينون الإيلى، موسى بن ميمون، ونيكول بروسارد، أولامب دو غوج، ديريك والكوت، إسماعيل كادارى، روبرت أوبنهايمر، وعلى الخصوص دانتى وآخرين مثلهم، تميزوا بنوع من الفضول المعرفى قادهم إلى تأسيس معارف إنسانية خالدة.

فى كتابه الأخير يقدم الكاتب أدلة أكثر وضوحا، عن ضرورة القراءة بل ضرورة الحرية فى القراءة، ويعترف مانغويل فى سياق بحثه بأن الأدب يحب الفضول، لأنه يوسع الأفق ويحقق للمرء سعيا دائما نحو المعرفة الأجمل والأكمل، الفضول نفسه يحمل القارئ المهتم بأعمال ألبيرتو مانغويل إلى قراءة صفحات بحثه الجديد الذى يفوق الأربعمائة صفحة.

يكتب ألبيرتو مانغويل مصرحا بأن القراءة هى عمل انقلابي؛ لأنها تغيرنا، فعندما نشب عن الطوق، وننفتح على العالم، فإننا نوسع من مجال رؤيتنا، لذلك نحن نتسلح بها لمحاربة أولئك الذين يريدون منعنا، وتقييدنا فى أمكنة ضيقة، القراءة سلاح لمحاربة الغباء والنوايا المبيتة لعزل المجتمع داخل دوامة الجهل، وتعويض المعرفة بالترفيه وثقافة الاستهلاك.


4- فضول الأماكن

يعرف أى زائر إلى البندقية أن الخرائط لا تجدى معها نفعا، وحدها التجربة المكررة لأرصفتها وجسورها وساحاتها وواجهات مبانيها البراقة وترسانتها المحروسة بالأسود الحجرية من عصور شتى، التى لابد أن يكون دانتى قد شاهدها، ربما تسمح بدرجة قليلة

الاقتران بين الفضول الذى يقود إلى السفر، وبين الفضول الذى يسعى إلى المعرفة العويصة مفهوم راسخ، فقد أشار ابن خلدون فى كتابه المعروف بمقدمة ابن خلدون إلى أن السفر كان ضرورة حتمية للتعلم وصقل المعرفة، لأنه يتيح لطالب العلم أن يلتقى معلمين عظماء ومرجعيات علمية مهمة.


5- ما هى اللغة

يوضح مانغويل فى هذا الفصل قيمة اللغة وماهيتها، وطبيعة الأسئلة التى نطرحها وننتظر الرد وسط عدة ثوابت للغة ومفردات لا يدركها سوى الفضوليين.

يقول مانغويل موضحا فكرته: «بمساعدة أبولو أو دون مساعدته.. عموما، نستخدم الكلمات فى محاولتنا النقل والوصف والشرح والمحاكمة والطلب والتوسل والتوكيد والتلميح والإنكار.

مع ذلك ينبغى لنا أن نعول فى كل حالة من هذه الحالات على ذكاء محدثنا وكرمه فى أن يستخلص المعنى الذى نريده من الأصوات التى نصدرها من أفواهنا، لا تساعدنا لغة الصور المجردة كثيرا، لأن هنالك فى طبيعتنا ما يجعلنا نرغب فى ترجمة الأشياء الخفية الراسخة التى ندرك يقينا استحالة ترجمتها إلى كلمات.


6- فضول الطبيعة

أثناء عمله فى سكرتارية المكتب الهندى بوزارة الداخلية الأمريكية، صدر له ديوان أوراق العشب، فقام الوزير بطرده على أساس أنه عمل لا أخلاقى، إنه الشاعر الأمريكى والت وايتمان، وفيه يقول:

«الأرض لا تجادل،

ليست مدعاة للشفقة، وما من حيلة بيدها

هى لا تزعق ولا تفحم ولا تهرع أو ترغى أو تزبد

الأمور سيان لديها، لا تعرف عن الفشل شيئا

لا تفرغ من شىء ولا تأبى شيئا أو تمنع شيئا

لا حالة أو أمرا تنهى عنه الأرض

إنما تخطر فحسب، لا تمنع شيئا هذه الأرض»

ومن تلك الأبيات التى كتبها شاعر مناضل إلى مانغويل الذى يطرح رؤيته فى فضولية المكان قائلا: العالم ليس له من بداية هادفة ولا من نهاية مفهومة، لا هدف واضح ولا حتى منهجا فى جنونه، لكننا نصر على وجوب أن يكون له معنى، لابد أنه يدل على شىء، لذا نقسم المكان إلى مناطق، والزمان إلى أيام، ثم نعود إلى الحيرة مرة تلو مرة حين يأبى المكان أن يلزم الحدود التى فى أطلساتنا.

6

النهاية

فى النهاية لا يسعنى إلا أن أقول إن الكتاب رحلة شيقة لكل من تتعلق أفئدتهم بأرفف الكتب وكل من لا تبحث أعينهم سوى عن الخيال بين أوراق تراث القدماء من الفلاسفة والشعراء والمفكرين.

العقبة الوحيدة من وجهة نظرى أنه كتاب من الصعب أن يوجه إلا لشريحة محددة من المثقفين، الذين يعرفون هذا التاريخ الطويل من الثقافة، ولكن الحقيقة العارية هى أن هناك فئة معينة هى التى قد تستوعب هذا الكتاب الثقيل نوعا ما فى محتواه، وهناك فئة قد تعتبره محاولة فائقة الصعوبة للغوص فى تاريخ الإنسانية.

استمتعت بقراءة الكتاب الذى دفعنى بكل فضول أن أنتقل من بين صفحاته إلى صفحات كل الكتب الثمينة التى أشار إليها مانغويل فى كتابه، وبذلك فقد استطاع الكاتب بكتاب واحد أن يعطينا فائدة ألف كتاب آخر.