عادل حمودة يكتب: الملف السرى لـ"الأرملة البيضاء"

مقالات الرأي



■ عرفت خمسين رجلا قبل أن يجندها زوجها الباكستانى جنيد حسين فى تنظيم داعش

■ تركت الجيتار وأمسكت بالبندقية وساهمت فى قتل 120 ضحية فى عامين

■ جندت فتيات الليل فى شوارع لندن وهرّبت واحدة منهن بعد أن تناولها كل رجال المعسكر

■ شركة موسيقى باعت أغانيها بعد مقتلها وأشهرها "فى البدء كنت حبيبى"

■ 31 ألف شاب أجنبى انضموا إلى التنظيم وتفسير الخبراء: إنهم يبحثون عن المجد والبطولة والمغامرة!

■ سالى جونز حالة شاذة بين الفنانات لم تستطع الموسيقى معالجة متاعبها النفسية والشخصية


أنفقت فى مدرسة الحب حياتها.. طالعت.. وذاكرت.. وسهرت الليالى.. أصبحت الأولى على النساء بين الرجال.. وأطعمتهم من جسدها خمرا وحليبا.. لكنها.. بعد كل هذا التكريم عضوا يديها.. واستنزفوا عمرها.. وعصروها.. وشربوها.. ودهسوها.. وبصقوها.

قائمة طويلة من الرجال تتجاوز الخمسين اسما عاشرتهم مغنية الراب البريطانية سالى جونز.. كل رجل منهم أخذ سنة من سنوات عمرها الخمسين.. فقدت كل رصيدها فى شهادة الميلاد.. أصبح الرصيد صفرا.. فقررت أن تبدأ عمرا جديدا.

كانت تعالج من إدمان الكحول فى مصحة خارج لندن عندما التقت شابًا باكستانى الأصل بريطانى المولد والجنسية هو جنيد حسين وصفته بأنه رجل يمشى على السحاب ويصنع المعجزات.. وعندما وقعت فى هواه أصبحت الأرض بدون حبه لا تدور.. وغنت له: كم كان حظى كبيرا حين عثرت عليك.. ويوم طرقت الباب على حياتى ابتدأ العمر من جديد.

شفيت من الإدمان بعد أن أقنعها بالإسلام.. حرقت ثيابها العارية وارتدت النقاب.. هجرت الغناء بدعوى أنه حرام.. لكنها.. أصرت على أن تكون الأغنية الأخيرة إليه.. لما هديتنى إلى الله.. وجدت قبسا من نور فى عينى.. وخرجت كلمات التقوى من شفتى.. يا نارا تجتاح كيانى.. يا ثمرا يملأ أغصانى.. ماذا أفعل؟ أصبحت من جديد فى حالة إدمان.. ووصلت إلى حد الهذيان.

جنت به.. استسلمت إليه.. عجنها بماء الوضوء.. شكلها بالقيام والسجود.. كسر أحذيتها العالية الكعب.. حرق ملابسها الملونة.. دربها على المشى حافية.. وعلمها كيف تقبل يديه بعد كل طعام.. فهو ولى نعمتها.. وولى جسدها.

إنها مثل عشرات المئات من الضائعين المحطمين الذين عصفت بصحتهم النفسية والعقلية الحرية الجنسية ووجدوا خلاصهم فى الإسلام طهرا وورعا ونقاء.. لكن.. لم تقف سالى جونز التى تغير اسمها إلى أم حسين عند هذا الحد فقد انقلبت من التسامح إلى العنف.. ومن الموعظة الحسنة إلى شهوة القتل فى تنظيم داعش الذى ضمها زوجها إليه.

إن جنيد حسين كان موهوبا فى استخدام الكمبيوتر واختراق المواقع الإلكترونية وبث رسائل التويتر دون التوصل إلى مرسلها وكانت ضربته الموجعة كسر التحصينات الإلكترونية للقيادة العسكرية الأمريكية الوسطى المسئولة عن تنفيذ خطط التحالف الدولى للقضاء على داعش.

فى عام 2013 أخذ حسين زوجته وابنها (12 سنة) من بيتها فى منطقة شاتام الراقية بمدينة كينث البريطانية ليسافروا سرا إلى سوريا حيث انضموا هناك إلى التنظيم الأكثر شراسة والأشد قسوة، تنفيذا لتعليمات مؤسسه أبو بكر البغدادى الذى حطم الأرقام القياسية فى السادية.

وحسب تقديرات المخابرات البريطانية فإن سالى جونز وزوجها خططا لاثنى عشر هجوما إرهابيا أجهزت على حياة 1200 ضحية لا ذنب لها.. بعدها حملت لقب أم المؤمنين.. وأحيانا كانوا يسمونها أم المجاهدين.

والأخطر أنها راحت عبر شبكات السوشيال ميديا تجند المراهقين فى الدول الأوروبية للتنظيم.. إنها تجيد التسلل عبر نقاط الضعف حتى توقع بالضحية.

بدأت بفتيات الليل اللاتى تعبن من بيع أجسادهن حتى انهرن نفسيا وكرهن حياتهن وسقطن فى مستنقع الإدمان.

واحدة منهن غيرت اسمها من مرجريت إلى خديجة تعترف بأنها احترفت الدعارة بعد أن اعتدى عليها زوج أمها وخرجت إلى الشارع وعمرها 16 سنة ليتلقفها قواد فى ماى فير.. الحى الراقى فى لندن.. وأجبرها على معاشرة عشرة رجال يوميا.. وعلمها الشم لتحتمل حياتها.. ولم يكن ليترك لها سوى ثمن الطعام.. وكان يسجنها فى البيت حتى لا تهرب.

لكن.. رجال داعش فى لندن وصلوا إليها وحرروها من سجنها بعد أن عذبوا قوادها أمامها إلى حد الموت فلم تتردد فى أن تتبعهم إلى سوريا.. وهناك تزوجت حسب رغبتها من شيخ مسن لا يقدر على شىء.. فقد كرهت الجنس.. وتفرغت للطهى.

ونجحت خديجة وحدها فى أن تضم للتنظيم خمسين عاهرة عرفتهن فى شوارع لندن.

وكتبت خديجة على صفحة خاصة على موقع التنظيم: عشت حياة قذرة بين صناديق القمامة فى مجتمع كل ما فيه علامات حمراء تعترضك إذا ما سألت عن أى شىء.. سعر دواء الربو.. رشاوى رجال الشرطة.. صفحة الأبراج.. ثلاجة مستعملة.. الجثث المجهولة فى الشوارع.

لكن.. لم يمر على خديجة أكثر من ثلاثة شهور قررت بعدها الهروب.. فقد أصبح عليها معاشرة مقاتلى التنظيم بعد عودتهم من عملية إرهابية.. بلا زواج.. أو عقد شرعى.. وفهمت لأول مرة معنى أن تكون جارية.

وتعيش خديجة الآن فى حلب بعد أن سلمت نفسها إلى الشرطة هناك ونشر كثير من المواقع هناك اعترافاتها الأخيرة.

وأضافت إليها: إن كثيرًا من الشباب المخدوع فى داعش يشعر بأنه مطرود من كل الخرائط.. ومذبوح من غير دماء.. ومقتول بغير قتال.. إنهم يتحدثون عن بلاد الله.. لكن الله لا يرضى لقاء الجبناء.

ونجحت سالى جونز فى تجنيد شاب فرنسى اسمه ميشيل يعمل فى هارودز.. جاء هو وصديقه الإنجليزى سميث إلى مخيمات التنظيم فى الرقة.. ولم يمانع أحد هناك فى أن يعيشا معا فى خيمة واحدة.. بل.. وجدا مثلهما الكثير.. فليس صحيحا أنهم يكرهون الشذوذ.. وكل ما يريدونه هو أن يشعر العالم بأن الدولة الإسلامية التى يسعون إليها دولة متعددة ومتنوعة ومختلفة الجنسيات ولو قبلت بسلوكيات محرمة فى الإسلام.

وحسب تقرير أخير نشرته صحيفة وول ستريت جورنال فإن عدد المقاتلين الأجانب الذين التحقوا بالتنظيم وصل فى نهاية يونيو الماضى إلى 31 ألف شاب وفتاة من 86 دولة بينما كان العدد قبل سنة بالضبط 12 ألف شخص.

وثلاثة أرباع المجندين اقتنعوا بالانضمام إلى التنظيم بواسطة الأصدقاء أو عبر شبكات الإنترنت.. لكن.. الأهم من رصد العدد البحث عن السبب.

يقول الخبير فى شئون الإرهاب بجامعة أوكسفورد البريطانية سكوت أتزان: إن المجندين ينضمون إلى التنظيم بحثا عن مجد أو مغامرة أو ليصبحوا أبطالا.

وهو ما يفسر أن غالبية المنضمين للتنظيمات الإرهابية لا تتجاوز أعمارهم الثلاثين سنة.. وربما كان التفسير مقنعا.. لكن.. ما الذى يدفع مغنية فى الخمسين من عمرها مثل سالى جونز للتورط فى جرائم العنف التى ارتكبتها؟ إن الفن يزيد من شعور الإنسان بالرقة والرقى.. ويعالج الصدمات النفسية والخيانات العاطفية.. فكيف ينقلب الفنان إلى جزار؟

لقد عرفت عن قرب فنانات هجرن الفن وتحجبن واعتزلن حياتهن القديمة ولكن ولا واحدة منهن أمسكت بندقية وأطلقت النار وأقصى ما فعلت إحداهن الدعاء على الصحافة التى تنتقد تصرفاتهن.

كانت هناك فنانة شابة رقيقة اعتزلت الفن بعد أن طلقت وأصيبت بالسرطان.. وكانت هناك أخرى تحجبت بعد طلاقها من زوجها الشاذ.. وكانت هناك ثالثة تخصصت فى مشاهد العرى وجدت نفسها فى النقاب بعد أن تزوجت من زميل لها أكثر شهرة منها واكتفت بتربية أولادها منه والمثير للدهشة أن زوجها عاد للفن من جديد كما أن أحد أبنائها احترف التمثيل بتشجيع منها.

فى ذلك الوقت من تسعينيات القرن الماضى نشط بعض الشيوخ فى إقناع الفنانات بالحجاب وتطوع أثرياء فى دول إسلامية فى عرض أموال مغرية عليهن إذا ما اعتزلن وتحجبن ووصل العرض للنجمات الأكثر شهرة إلى مليون دولار.

وأغرب قصص ذلك الملف قصة النجمة السمراء التى أقنعتها ابنتها بالحجاب بعد أن تزوجت ثلاثة رجال ولم تنجح فى حياتها الشخصية.. أما الرابع فجاء بعد الحجاب.. وكان مقاولاً صغيرًا فى الإسكندرية.. قبلت أن تكون زوجته الثانية.. بل ساهمت فى تربية ابنه من زوجته الأولى.

كانت تلك الفنانة المميزة والموهوبة تخشى غدر الزمن وتدرك أن الفن لا أمان له وأن الأضواء التى أخذتها سرعان ما تذهب إلى غيرها وهو ما حرضها على الاعتزال وهى فى القمة وراحت تكسب مالها من التجارة ولكنها بعد سنوات من العزلة حنت للأضواء فقبلت بحوارات تليفزيونية ولكنها لم تشبعها.

كل النجمات اللاتى اعتزلن انسحبن من الحياة العامة فى هدوء دون تورط فى تنظيم إرهابى أو تصريح يشجع على التطرف أو التشدد.. لم نسمع أو نقرأ لواحدة ممن تركن خشبة المسرح أو بلاتوه السينما مثل هالة فؤاد وحنان ترك وسهير رمزى وعفاف شعيب وسهير البابلى كلمة واحدة تحبذ العنف.

لكن.. سالى جونز كانت نمطا شاذا من الفنانات.. تركت الجيتار وأمسكت بالبندقية.. سحقت كلمات الحب التى تغنيها ووضعت خطط القتل والذبح والتفجير.. نسيت دعوات الحياة وروجت لدعوات الموت.

على أنه من عاش بالسيف.. بالسيف يموت.. فقد قتل جنيد حسين عام 2015 فى غارة طائرة بدون طيار وفقد التنظيم واحدًا من أخطر قياداته.

وفى يونيو الماضى لحقت به سالى جونز هى وابنها (جو ديكسون) ولقيا نفس المصير حيث قتلا أيضا بطائرة دون طيار (من نوع بريديتور) وهما يحاولان الهرب من معقل التنظيم فى مدينة الرقة باتجاه بلدة تسمى الميادين شرق سوريا.

وصفت الحكومة البريطانية النبأ بأنه: خلاص مفرح وإن تكتمت أجهزة المخابرات البريطانية والأمريكية الخبر حتى لا تتهم باستهداف ابن سالى جونز.. فقتل الأطفال فى ميادين المعارك يعتبر جريمة حرب.

وكان التنظيم قد وصف سالى جونز بعد مقتل زوجها بـ«الأرملة البيضاء» بسبب لون بشرتها.

والمثير للدهشة أن إحدى شركات الموسيقى سجلت أغانيها القديمة على أسطوانات مدمجة وطرحتها للجمهور الذى أقبل عليها بجنون.. إنها الرأسمالية التى تبيع كل شىء.

وسجلت أغنيتها فى البدء كنت حبيبى شهرة لم تنلها سالى جونز وهى على قيد الحياة.. ورددت فرق موسيقية صغيرة وكبيرة كلماتها: فى البدء كنت حبيبى.. وبعدك تكونت عناصر الحياة.. الماء والنار والتراب والهواء.. وتوالت الفصول الأربعة.. برد الشتاء فى أحضانك.. حرارة الصيف من شفتيك.. وربيع الدنيا إلى جوارك.. وخريف الحياة بدونك.

لكن.. يظل السؤال الحائر بلا إجابة: كيف تترك امرأة كل هذه المشاعر وتلقى بنفسها فى جحيم الإرهاب لتحترق فيه بلا مقابل؟

مهما كانت الكلمات والصدمات والإحباطات التى يعيشها الفنان فإنه بسحر الموسيقى ينجو منها ولكن يبدو أن سالى جونز كانت حالة خاصة جدا.