حكاية الجن والشياطين المسجونين في عهد سليمان عليه السلام

منوعات

أرشيفية
أرشيفية


بلغني أيضًا أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان بدمشق الشام ملك من الخلفاء يسمى عبد الملك بن مروان، وكان جالساً يوماً من الأيام، وعنده أكابر دولته من الملوك والسلاطين، فوقعت بينهم مباحثة في حديث الأمم السالفة، وتذكروا أخبار سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام وما أعطاه الله تعالى من الملك والحكم في الإنس والجن والطير والوحش وغير ذلك وقالوا قد سمعنا ممن كان قبلنا أن الله سبحانه وتعالى، لم يعط أحد مثل ما أعطى سيدنا سليمان وأنه وصل إلى شيء لم يصل إليه أحد حتى أنه كان يسجن الجن والمردة والشياطين في قماقم من النحاس ويسبك عليهم بالرصاص ويختم عليهم بخاتمة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والستين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة عبد الملك بن مروان لما تحدث مع أعوانه وأكابر دولته وتذكروا سيدنا سليمان وما أعطاه الله من الملك قال أنه وصل إلى شيء لم يصل غليه أحد حتى أنه كان يسجن المردة والشياطين في قماقم من النحاس ويسبك عليهم بالرصاص ويختم عليهم بخاتمة، وأخبر طالب أن رجلاً نزل في مركب مع جماعة وانحدروا إلى بلاد الهند ولم يزالوا سائرين حتى طلع عليهم ريح فوجههم ذلك الريح إلى أرض من أراضي الله تعالى وكان ذلك في سواد الليل.
فلما أشرق النهار خرج إليهم من مغارات تلك الأرض أقوام سود الألوان عراة الأجساد كأنهم وحوش، لا يفقهون خطاباً لهم ملك من جنسهم وليس منهم أحد يعرف العربية غير ملكهم فلما رأوا المركب ومن فيها خرج إليهم في جماعة من أصحابه فسلم عليهم ورحب بهم وسألهم عن دينهم، فأخبروه بحالهم فقال لهم لا بأس عليكم، وحين سألهم عن دينهم كان كل منهم على دين من الأديان، سألهم عن دين الإسلام وعن بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

فقال أهل المركب نحن لا نعرف ما تقول ولا نعرف شيئاً من هذا الدين فقال لهم الملك إنه لم يصل إلينا أحد من بني آدم قبلكم ثم إنه ضيفهم بلحم الطيور والوحوش والسمك لأنه ليس لهم طعام غير ذلك ثم إن أهل المركب نزلوا يتفرجون في تلك المدينة، فوجدوا بعض الصيادين أرخى شبكته في البحر ليصطاد سمكاً ثم رفعها فيها قمقم من نحاس مرصص مختوم عليه بخاتم سليمان بن داود عليهما السلام فخرج به الصياد وكسره فخرج منه دخان أزرق التحق بعنان السماء فسمعنا صوتاً منكراً يقول التوبة التوبة يا نبي الله ثم صار من ذلك الدخان شخص هائل المنظر مهول الخلقة تلحق رأسه الجبل ثم غاب عن أعينهم.

فأما أهل المركب فكادت تنخلع قلوبهم، وأما السودان فلم يفكروا في ذلك، فرجع رجل إلى الملك وسأله عن ذلك فقال له اعلم أن هذا من الجن الذين كان سليمان بن داود إذا غضب عليهم سجنهم في هذه القماقم، ورصص عليهم ورماهم في البحر فإذا رمى الصياد الشبكة يطلع بها القماقم في غالب الأوقات، فإذا كسرت يخرج منها جني ويخطر بباله أن سليمان حي فيتوب ويقول التوبة يا نبي الله، فتعجب أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان من هذا الكلام، وقال سبحان الله لقد أوتي سليمان ملكاً عظيماً وكان ممن حضر في ذلك المجلس النابغة الذبياني فقال طالب فيما أخبرته والديل على صدقه قول الحكيم الأول:

                    وفي سليمان إذ قال الإلـه لـه       قم بالخلافة واحكم حكم مجتهد

                    فمن أطاعك فأكرمه بطاعتـي       ومن أبى عنك فاحبسه إلى الأبد

وكان يجعلهم في قماقم من النحاس ويرميهم في البحر فاستحسن أمير المؤمنين هذا الكلام وقال والله إني لأشتهي أن أرى شيئاً من هذه القماقم فقال له طالب بن سهل، يا أمير المؤمنين إنك قادر على ذلك وأنت مقيم في بلادك فأرسل إلى أخيك عبد العزيز بن مروان أن يأتيك بها من بلاد الغرب بأن يكتب إلى موسى أن يركب من بلاد الغرب إلى هذا الجبل الذي ذكرناه ويأتيك من هذه القماقم بما تطلب فإن البر متصل من آخر ولايته بهذا الجبل فاستصوب أمير المؤمنين رأيه وقال يا طالب صدقت فيما قلته وأريد أن تكون أنت رسولي إلى موسى بن نصير في هذا الأمر ولك الراية البيضاء وكل ما تريده من مال أو جاه أو غير ذلك وأنا خليفتك في أهلك قال حباً وكرامة يا أمير المؤمنين فقال له سر على بركة الله تعالى وعونه.

ثم أمر أن يكتبوا له كتاباً لأخيه عبد العزيز نائبه في مصر وكتاباً آخر إلى موسى نائبه في بلاد الغرب يأمره بالسير في طلب القماقم السليمانية بنفسه ويستخلف ولده على البلاد ويأخذ معه الأدلة وينفق المال، وليستكثر من الرجال ولا يلحقه في ذلك فترة ولا يحتج بحجة.

ثم ختم الكتابين وسلمهما إلى طالب بن سهل وأمره بالسرعة ونصب الرايات على رأسه ثم إن الخليفة أعطاه الأموال والركائب والرجال ليكونوا أعواناً له في طريقه وأمر بإجراء النفقة على بيته من كل ما يحتاج إليه وتوجه طالب يطلب مصر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والستين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن طالب بن سهل سار هو وأصحابه يقطعون البلاد من الشام إلى أن دخلوا مصر، فتلقاه أمير مصر وأنزله عنده وأكرمه غاية الإكرام في مدة إقامته عنده، ثم بعث معه دليلاً إلى الصعيد الأعلى حتى وصلوا إلى الأمير موسى بن نصير.

فلما علم به خرج إليه وتلقاه وفرح به فناوله الكتاب فأخذه وقرأه وفهم معناه ووضعه على رأسه وقال سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين، ثم إنه اتفق رأيه على أن يحضر أرباب دولته فحضروا فسألهم عما بدا لهم في الكتاب، فقالوا أيها الأمير إن أردت من يدلك على طريق ذلك المكان، فعليك بالشيخ عبد الصمد بن عبد القدوس الصمودي، فإنه رجل عارف وقد سافر كثيراً خبير بالبراري والقفار والبحار وسكانها وعجائبها والأرضين وأقطارها فعليك به فإنه يرشدك إلى ما تريده.

فأمر بإحضاره فحضر بين يديه فإذا هو شيخ كبير قد أهرمه تداول السنين والأعوام فسلم عليه الأمير موسى وقال له يا شيخ عبد إن مولانا أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان قد أمرنا بكذا وكذا، وأنا قليل المعرفة بتلك الأرض وقد قيل لي أنك عارف بتلك البلاد والطرقات، فهل لك رغبة في قضاء حاجة أمير المؤمنين.

فقال الشيخ اعلم أيها الأمير أن هذه الطريق وعرة بعيدة الغيبة قليلة المسالك فقال له الأمير كم مسيرة مسافتها فقال مسيرة سنتين ذهاباً ومثلها إياباً، وفيها شدائد وأهوال وغرائب وعجائب وأنت رجل مجاهد وبلادنا بالقرب من العدو فربما تخرج النصارى في غيبتك والواجب أن تستخلف في مملكتك من يدبرها قال نعم فاستخلف ولده هارون عوضاً عنه في مملكته وأخذ عليه عهداً وأمر الجنود أن لا يخالفون بل يطاوعوه في جميع ما يأمرهم به فسمعوا كلامه وأطاعون وكان ولده هارون شديد البأس هماماً جليلاً وبطلاً كميناً، وأظهر له الشيخ عبد الصمد أن الموضع الذي فيه حاجة أمير المؤمنين مسيرة أربعة أشهر وهو على ساحل البحر، وكله منازل تتصل ببعضها وفيها عشب وعيون فقال قد يهون الله علينا ذلك ببركتك يا نائب أمير المؤمنين.

فقال الأمير موسى هل تعلم أن أحداً من الملوك وطئ هذه الأرض قبلنا قال له نعم يا أمير المؤمنين هذه الأرض لملك الاسكندرية داران الرومي، ثم ساروا ولم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى قصر فقام تقدم بنا إلى هذا القصر الذي هو عبرة لمن اعتبر، فتقدم الأمير موسى إلى القصر ومعهم الشيخ عبد الصمد وخواص أصحابه حتى وصلوا إلى بابه، فوجدوه مفتوحاً وله أركان طويلة ودرجات وفي تلك الدرجات درجتان ممتدتان وهما من الرخام الملون الذي لم ير مثله والسقوف والحيطان منقوشة بالذهب والفضة والمعدن، وعلى الباب لوح مكتوب فيه باليوناني، فقال الشيخ عبد الصمد هل أقرأه يا أمير المؤمنين فقال له تقدم واقرأ بارك الله فيك، فما حصل لنا في هذا السفر إلا بركتك فقرأه فإذا فيه شعر هو:

                     قوم تراهم بعد ما صـنـعـوا         يبكي على الملك الذي نزعوا

                     فالقصر فيه منتهـى خـبـر           عن سادة في الترب قد جمعوا

                    أبادهـم مـوت وفـرقـهـم             وضيعوا في التراب ما جمعوا

                    كأنما حـطـوا رحـالـهـم             ليستريحوا سرعة رجـعـوا

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والستين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ عبد الصمد لما قرأ هذه البيات بكى الأمير موسى حتى غشي عليه وقال له لا إله إلا الله الحي الباقي بلا زوال ثم إنه دخل القصر فتحيرمن حسنه وبنائه، ونظر إلى ما فيه من الصور والتماثيل وإذا على الباب الثاني أبيات مكتوبة، فقال الأمير موسى تقدم أيها الشيخ واقرأ فتقدم وقرأ فإذا هي:

                   كم معشر في قبابها نـزلـوا         على قديم الزمان وارتحلـوا

                   انظر إلى ما بغيرهم صنعت        حوادث الدهر إذ بهم نزلـوا

                   سموا كل ما لهم جـمـعـوا           وخلفوا حظ ذاك وارتحلـوا

                   كم لابسوا نعمة وكم أكـلـوا          فأصبحوا في التراب قد أكلوا

فبكى الأمير موسى بكاء شديداً، واصفرت الدنيا في وجهه ثم قال لقد خلقنا لأجل هذا ثم تأملوا القصر فإذا هو قد خلا من السكان، وعدم الأهل والقطان دوره مرصعات، وجهاته مقفرات، وفي وسطه قبة عالية شاهقة في الهواء وحواليها أربعمائة قبر فبكى الأمير موسى ومن معه، ثم دنا من القبة فإذا لها ثمانية أبواب من خشب الصندل بمسامير من الذهب مكوكبة بكواكب الفضة مرصعة بالمعادن من أنواع الجواهر مكتوب على الباب الأول هذه الأبيات:

                 ما قد تركت فما خلفـتـه كـرمـاً         بل بالفضاء وحكم في الورى جاري

                 فطالما كنت مسروراً ومغتـبـطـاً        احمي حماي كمثل الضيغم الضاري

                 لا أستقر ولا أسـخـى بـخـردلة          شحاً عليه ولو ألقيت فـي الـنـار

                 حتى رمـيت بـأقـدار مـقـدرة            شحاً عليه ولو ألقيت فـي الـنـار

                 إن كان موتي محتوماً على عـجـل       فلم أطق دفعه عني بـإكـثـاري

فلما سمع الأمير موسى هذه الأبيات بكى بكاء شديداً حتى غشي عليه، فلما أفاق دخل القبة، فرأى فيها قبراً طويلاً هائل المنظر، وعليه لوح من الحديد الصيني، فدنا منه الشيخ عبد الصمد وقرأ فإذا فيه مكتوب بسم الله الدائم الأبدي الأبد بسم الله الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد بسم ذي العزة والجبروت باسم الحي الذي لا يموت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والستين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ عبد الصمد لما قرأ ما ذكرناه رأى مكتوباً في اللوح، أما بعد أيها الواصل إلى هذا المكان اعتبر بما ترى من حوادث الزمان وطوارق الحدثان، ولا تغتر بالدنيا وزينتها وزورها وبهتانها وغرورها وزخرفها فمنها ملاقاة مكارة غدارة أمورها مستعارة تأخذ المعار من المستعير فهي كأضغاث النائم وحلم الحاكم كأنها سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء يزخرفها الشيطان للإنسان إلى الممات، فهذه صفات الدنيا فلا تثق بها ولا تمل إليها فإنها تخون من استند إليها وعول في أموره عليها لا تقع في حبالها ولا تتعلق بأذيالها فإني ملكت أربعة آلاف حصان أحمر في دار وتزوجت ألف بنت من بنات الملوك نواهد أبكار كأنهن القمار، ورزقت ألف ولد كأنهن الليوث العوابس، وعشت من العمر ألف سنة منعم البال والأسرار، وجمعت من الأموال ما يعجز عنه ملوك الأقطار، كان ظني في النعيم يدوم لي بلا زوال، فلم أشعر حتى نزل بنا هادم اللذات ومفرق الجماعات وموحش المنافل ومخرب الدور العامرات، وإن سألت عن اسمي فإني كوش بن شداد ابن عاد الأكبر في ذلك اللوح مكتوب أيضاً هذه الأبيات:

                       أن تذكروني بعد طول زمـانـي           وتقـلـب الأيام والـحـدثـان

                       فأنا ابن شداد الذي ملك الـورى          والأرض أجمعها بكل مـكـان

                       دانت لي الزمر الصعاب بأسرها         والشام من مصر إلى عـدنـان

                       قد كنت في عز أذل ملوكـهـا             وتخاف أهل الأرض من سلطان

فبكى الأمير موسى حتى غشي عليه لما رأى من مصارع القوم قال فبينما هو يطوفون بنواحي القصر ويتأملون في مجالسه ومتنزهاته، وإذا بمائدة على أربعة قوائم من المرمر مكتوب عليها، قد أكل على هذه المائدة ألف ملك أعور، وألف ملك سليم العينين كلهم فارقوا الدنيا، وسكنوا الأرماس والقبور وسار العسكر والشيخ عبد الصمد أمامهم يدلهم على الطريق حتى مضى ذلك اليوم كله وثانية وثالثة وإذا هم برابية عالية فنظروا إليها فإذا عليها فارس من نحاس وفي رأس رمحه سنان عريض براق يكاد يخطف البصر متوب عليه أيها الواصل إلي إن كنت لا تعرف الطريق الموصلة إلى مدينة النحاس فافرك كف الفارس فإنه يدور ثم يقف فأي جهة وقف إليها فاسلكها ولا خوف عليك ولا حرج فإنها توصلك إلى مدينة النحاس.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والستين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمير موسى فرك كف الفارس فدار كأنه البرق الخاطف وتوجه إلى غير الجهة التي كانوا فيها فتوجه القوم فيها وساروا فإذا هي طريق حقيقية فسلكوها، ولم يزالوا سائرين يومهم وليلتهم حتى قطعوا بلاداً بعيدة.

فبينما هم سائرون يوماً من الأيام وإذا هم بعمود من الحجر الأسود وفيه شخص غائص في الأرض إلى إبطيه وله جنان عظيمان وأربع أيادي يدان منها كأيدي الآدميين ويدان كأيدي السباع فيهما مخالب وله شعر في رأسه كأنه أذناب الخيل وله عينان كأنهما مرآتان وله عين ثالثة في جبهته كعين فهد يلوح منها شرار النار وهو أسود طويل وينادي سبحان رب حكم النبلاء العظيم والعذاب الأليم إلى يوم القيامة.

فلما عاينه القوم طارت عقولهم واندهشوا لما رأوا من صفته وولوا فقال الأمير موسى للشيخ عبد الصمد ما هذا قال لا أدري ما هو فقال ادن منه وابحث عن أمره فلعله يكشف عن أمره ولعلك تطلع على خبره فقال الشيخ عبد الصمد أصلح الله الأمير إننا نخاف منه قال لا تخافوا فإنه مكفوف عنكم وعن غيركم بما هو فيه فدنا منه الشيخ عبد الصمد وقال له أيها الشخص ما اسمك وما شأنك وما الذي جعلك في هذا المكان على هذه الصورة فقال له أما أنا فإني عفريت من الجن واسمي داهش بن الأعمش، وأنا مكفوف ههنا بالعظمة محبوس بالقدرة معذب إلى ما شاء الله عز وجل.

قال الأمير موسى يا شيخ عبد الصمد اسأله ما سبب سجنه في هذا العمود فسأله عن ذلك فقال له العفريت إن حديثي عجيب وذلك أنه كان لبعض أولاد إبليس صنم من العقيق الأحمر وكنت موكلاً به وكان يعبده ملك من ملوك البحر جليل القدر عظيم الخطر يقود من عساكر الجان ألف ألف يضربون بين يديه بالسيوف ويجيبون دعوته في الشدائد وكان الجان الذي يطعيونه تحت أمري وطاعتي يتبعون قولي إذا أمرتهم وكانوا كلهم عصاة عن سليمان بن داود عليهما السلام وكنت أدخل في جوف الصنم فآمرهم وأنهاهم وكانت ابنة ذلك الملك تحب ذلك الصنم كثيرة السجود له منهمكة على عبادته وكانت أحسن أهل زمانها ذات حسن وجمال وبهاء وكمال فوصفتها لسليمان عليه السلام فأرسل إلى أبيها يقول له زوجني ابنتك واكسر صنمك العقيق وأشهد أن لا إله إلا الله وأن سليمان نبي الله فإن أنت فعلت ذلك كان لك ما لنا وعليك ما علينا وإن أنت أبيت أتيتك بجنود لا طاقة لك بها، فاستعد للسؤال جواباً والبس للموت جلباباً فسوف أسير لك بجنود تملأ الفضاء وتدرك كالأمس الذي مضى، فلما جاءه رسول سليمان عليه السلام طغى وتجبر وتعاظم في نفسه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والستين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك تجبر وتعاظم في نفسه وتكبر ثم قال لوزرائه ماذا تقولون في أمر سليمان بن داود فإنه أرسل يطلب ابنتي وأن أكسر صنم العقيق، وأن أدخل في دينه فقالوا أيها الملك العظيم هل يقدر سليمان أن يفعل بك وأنت في وسط هذا البحر العظيم فإن هو سار إليك لايقدر عليك فإن مردة الجن يقاتلون معك وتستعين عليه بصنمك الذي تعبده فإنه يعينك وينصرك والصواب أن تشاور ربك في ذلك – يعنون به الصنم العقيق الأحمر – وتسمع ما يكون جوابه فإن أشار عليك أن تقاتله، فقاتله وإلا فلا، فعند ذلك سار الملك من وقته وساعته ودخل على صنمه بعد أن قرب القربان وذبح الذبائح وخر له ساجداً وجعل يبكي ويقول شعراً:

                          يا رب إني عارف بقدركا             وها سليمان يروم كسركا

                          يا رب إني طالب لنصركا             فأمر فإني طائع لأمركا

ثم قال ذلك العفريت الذي نصفه في العمود للشيخ عبد الصمد ومن حوله يسمع فدخلت أنا في جوف الصنم من جهلي وقلة عقلي وعدم اهتمامي بأمر سليمان وجعلت أقول شعراً:

                          أما أنا فلست منـه خـائف            لأني بكل أمـر عـارف

                          وإن يرد حربي فإني زاحف         وإنني للروح منه خاطـف

 فلما سمع الملك جوابي له قوي قلبه وعزم على حرب سليمان نبي الله عليه السلام وعلى مقاتلته، فلما حضر رسول سليمان ضربه ضرباً وجيعاً ورد عليه رداً شنيعاً وأرسل يهدده ويقول له مع الرسول: لقد حدثتك نفسك بالأماني أتوعدني بزور الأقوال، فإما أن تسير إلي وإما أن أسير إليك ثم رجع الرسول إلى سليمان وأعلمه بجميع ما كان من أمره وما حصل له.

فلما سمع نبي الله سليمان ذلك قامت قيامته وثارت عزيمته وجهز عساكره من الجن والإنس والوحوش والطير والهوام وأمر وزيره الدمرياط ملك الجن أن يجمع مردة الجن من كل مكان، فجمع له من الشياطين ستمائة ألف وأمر آصف بن برخيا أن يجمع عساكره من الإنس فكانت عدتهم ألف أو يزيدون وأعدوا العدة والسلاح، وركب هو وجنوده من الجن والإنس على البساط والطير فوق رأسه طائرة والوحوش من تحت البساط سائرة حتى نزل بساحتك وأحاط بجزيرتك وقد ملأ الأرض بالجنود.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والستين بعد الخمسمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العفريت قال لما نزل نبي الله سليمان عليه السلام بجيوشه حول الجزيرة أرسل إلى ملكنا يقول له: ها أنا قد أتيت فاردد عن نفسك ما نزل، وإلا فادخل تحت طاعتي وأقر برسالتي واكسر صنمك واعبد الواحد المعبود وزوجني ابنتك بالحلال وقل أنت ومن معك أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سليمان نبي الله، فإن قلت ذلك كان لك الأمان والسلامة وإن أبيت فلا يمنعك تحصنك مني في هذه الجزيرة فإن الله تبارك وتعالى أمر الريح بطاعتي فأمرها أن تحملني إليك بالبساط وأجعلك عبرة ونكالاً لغيرك. فجاء الرسول وبلغه رسالة نبي الله سليمان عليه السلام، فقال له: ليس لهذا الأمر الذي طلبه مني سبيل فأعلمه أني خارج إليه. فعاد الرسول إلى سليمان ورد عليه الجواب، ثم إن الملك أرسل إلى أرضه وجمع له من الجن الذين كانوا تحت يده ألف ألف، وضم إليهم غيرهم من المردة والشياطين الذين في جزائر البحار ورؤس الجبال ثم جهز عساكره وفتح خزائن السلاح وفرقها عليهم.

أما نبي الله سليمان عليه السلام فإنه رتب جنوده وأمر الوحوش أن تنقسم شطرين على يمين القوم وعلى شمالهم وأمر الطيور أن تكون في الجزائر وأمرها عند الحملة أن تختلف أعينهم بمناقيرها، وأن تضرب وجوههم بأجنحتها وأمر الوحوش أن تفترس خيولهم فقالوا السمع والطاعة لله ولك يا نبي الله.

ثم إن سليمان نصب له سريراً من المرمر مرصعاً بالجوهر مصفحاً بصفائح الذهب الأحمر وجعل وزيره آصف بن برخيا على الجانب الأيمن ووزيره الدمرياط على الجانب الأيسر وملوك الإنس على يمينه وملوك الجن على يساره والوحوش والأفاعي والحيات أمامه، ثم زحفوا علينا زحفة واحدة وتحاربنا معه في أرض واسعة مدة يومين ووقع البلاء في الثالث فنفذ فينا قضاء الله تعالى وكان أول من حمل على سليمان أنا وجنودي، وقلت لأصحابي الزموا مواطنكم حتى أبرز إليهم وأطلب قتال الدمرياط وإذا به قد برز كأنه الجبل العظيم ونيرانه تلتهب ودخانه مرتفع فأقبل ورماني بشهاب من نار فغلب سهمه على ناري وصرخ صرخة عظيمة تخيلت منها أن السماء انطبقت علي واهتزت لصوته الجبال.

ثم أمر أصحابه فحملوا علينا حملة واحدة وحملنا عليهم وصرخ بعضنا على بعض وارتفعت النيران وعلا الدخان وكادت القلوب أن تنفطر وقامت الحرب على ساق، وصارت الطيور تقاتل في الهواء والوحوش تقاتل في الثرى، وأنا أقاتل الدمرياط حتى أعياني وأعييته.

ثم بعد ذلك ضعفت وخذلت أصحابي وجنودي وانهزمت عشائري وصاح نبي الله سليمان هذا الجبار العظيم النحس الذميم، فحملت الإنس على الإنس والجن على الجن ووقعت بملكنا الهزيمة وكنا لسليمان غنيمة، وحملت العساكر على جيوشنا والوحوش حولهم يميناً وشمالاً، والطيور فوق رؤوسنا تخطف أبصار القوم تارة بمخالبها، وتارة بمناقيرها، وتارة تضرب بأجنحتها في وجوه القوم والوحوش تنهش الخيول وتفترس الرجال، حتى أكثر القوم على وجه الأرض كجذوع النخل وأما أنا فطرت من بين أيادي الدمرياط فتبعني مسيرة ثلاثة أشهر حتى لحقني ووقعت كما ترون.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.