عادل حمودة يكتب: اغتيال مصر بالرصاص جريمة مستحيلة

مقالات الرأي



■ المجد للشهداء نعم ولكن لم نكرر الأخطاء فى مواجهات الإرهاب؟

■ فى زمن أرانب الإنترنت جاءت البيانات الرسمية عن حادث الواحات على ظهر سلحفاة

■ خبرة ضابط الصاعقة المطرود من الخدمة هشام عشماوى نفذت العملية بإصابة المدرعة الأولى والمدرعة الأخيرة لتعطيل القول وقتل كل من حاول النجاة بنفسه


ما حدث وما سيحدث.. ليس مواجهة مع تنظيمات إرهابية مجرمة وقاسية وشرسة.. وإنما حرب استنزاف تستهدف اغتيال كل ما هو نبيل وجميل وشامخ فى وطننا.. وإجهاض كل الأشجار التى لا تزال واقفة على قدميها.. تطرح الظل.. وتطرح الثمر.

والمؤكد.. أن الأوطان العريقة لا تقتل بإطلاق الرصاص عليها.. فلها من المناعة التاريخية والزمنية.. ما يجعل إسقاطها نوعا من الجريمة المستحيلة.

هكذا علمت مصر الدنيا بملفها الضخم فى التعامل مع أعداء الحياة من الهكسوس إلى التتار ومن التتار إلى عشرات التنظيمات الإرهابية.

إن ممارسى عبادة الظلام فى تلك التنظيمات ينزعجون إذا ما بقيت نجمة واحدة تبرق فى السماء.. أو شمعة واحدة تبدد العتمة.. إنهم يكرهون سنابل القمح.. وينابيع المياه.. وموج البحر.. وضفائر البنات.. وأغنيات محمد منير.. وأفلام سعاد حسنى.. ومؤلفات جمال حمدان.. وروايات يوسف إدريس.. ويعيشون كنباتات فطرية على أنقاض العالم وخرائبه.

لكن.. هذا لا يعنى ألا نجهز أنفسنا بالتدريب الراقى والتسليح المناسب وكشف جغرافيا الأرض التى يعيشون عليها بوسائل الاستطلاع ونتعقب تنظيماتهم الخفية بالمعلومات السرية قبل تنفيذ عمليات المواجهة الأمنية.. والأهم.. أن نستفيد من الأخطاء التى وقعنا فيها من قبل.

هذا هو الدرس البسيط والمتكرر الذى خرجنا به مما سبق.. ولم نستفد به فى حادث الواحات.. لا يكفى أن نشجب ونرفض.. لا يكفى أن نسب الجناة.. لا يكفى أن نتهمهم بما هو شائع عن تلقى أموالهم من أجهزة مخابرات معادية.. لا يكفى أن ندينهم ونلعنهم ونكفرهم.. بل.. لا بد من سحقهم والإجهاز عليهم وقطع دابرهم.. ولكن بأساليب تتجاوز قدراتهم.. وبتخطيط يتخطى تفكيرهم.

وربما.. هى المرة الأولى التى نعرف فيها أن وزارة الداخلية فتحت تحقيقا موسعا فى الحادث.. لكشف ملابساته.. وتحديد أوجه القصور فيه.. وربما.. نساعـدها فيما رصدنا من ملاحظات.. وبما حصلنا عليه من معلومات.

لقد تأخر بيانها عن الحادث فرحنا نبحث عن قناة فضائية أو وكالة أنباء خارجية تكشف لنا ما ستر من غموض.. موقع بى بى سى ذكر أن ضحايا الشرطة 53 شهيدا.. وكالة رويترز خفضت العدد إلى 35 شهيدا.. ليهبط تقدير الداخلية بالعدد إلى 16 شهيدًا.. وأهاب البيان بوسائل الإعلام الاعتماد عليها وحدها فيما تنشر من معلومات.. ونحن بدورنا نهيب بها ألا تتصرف فى عصر الأرانب الإلكترونية السريعة مثل السلحفاة.. فى زمن الإنترنت الثانية تفرق.. وربما اللحظة.

والحقيقة.. أن الداخلية لم تتأخر فقط.. وإنما لم تقل شيئا أيضا.. وتركت الساحة أمام كل من يجتهد بعلم أو يجتهد بجهل.. مكتفية بالتكذيب والإنكار لما نشر ولما سمع ولما بث من تسجيلات صوتية.

لقد وصلت معلومات لجهاز الأمن الوطنى من خلية سقطت فى القليوبية عن وجود معسكر فى بطن منطقة الواحات لتنظيم إرهابى هو المرابطون يقوده هشام العشماوى.. يستعد لتنفيذ عمليات فى تجمعات سكانية.. ربما فى الجيزة.. وربما فى القاهرة.

وهشام عشماوى ضابط صاعقة مفصول من الخدمة فى عام 2011.. سافر إلى سوريا للتدريب على تصنيع المتفجرات.. وعاد إلى مصر ليشارك فى اعتصام ميدان رابعة العدوية.. ونجح فى الهروب إلى ليبيا ليكون تنظيما من ضباط شرطة مفصولين.. ونفذ التنظيم أكثر من عملية.. أسوأها عملية كمين الفرافرة التى استشهد فيها 22 مجندا.

باختصار.. نحن أمام إرهابى محترف.. يمتلك خبرة عسكرية لم تحسب قوة الشرطة المهاجمة على ما يبدو حسابها.. وتعاملت معه وكأنه مجرم جنائى (قاتل أو لص أو تاجر مخدرات) ستهاجم وكره.. وتمسك به من قفاه وتخرج به منتشية أمام الكاميرات.

لكنه.. استخدم مع القوة المهاجمة أسلوبا شهيرا يعرفه ضباط الصاعقة فى الحروب.. ضرب المدرعة الأولى والمدرعة الأخيرة بقذيفتى أر بى جى ليتجمد القول كله فى مكانه.. عاجزا عن الحركة.. ولينتشر أفراده فى عشوائية بحثا عن فرصة نجاة.. ليسهل بعد ذلك التعامل معهم.. وإطلاق الرصاص عليهم.. خاصة إذا كان الإرهابيون يتمركزون فى مكان مرتفع ويمتلكون أسلحة ثقيلة تتجاوز فى قوتها أسلحة الشرطة التى لا تزيد عادة عن مدافع رشاشة وبنادق آلية وطبنجات.

وحسب ما نشر فإن القوة قطعت 135 كيلومتراً فى منطقة جبلية وصحراوية وعرة وموحشة ليس بها خدمات.. توغلت فيها حتى فقدت أجهزة الموبايل إشارة الاتصال بالشبكات.. وعزلت القوة عن قيادتها التى لم تعرف بما حدث إلا بعد أن مشى أحد الناجين عائدا نفس المسافة حتى عثر على شبكة.

إن الاعتماد على كفاءة الموبايل وسط المدن لم يعد متاحا فى كثير من المناطق فهل يمكن الاعتماد عليه فى مثل هذه المهام البعيدة عن العمران؟.. ألم يكن من الممكن الاعتماد على موبايل الثريا المتصل بالأقمار الصناعية؟.. ألا يجب أن تتوافر فى مثل هذه العمليات أجهزة لاسلكى أو وسائل اتصال خاصة متطورة؟

ولا شك.. أن تحرك القوة لزمن ليس قصيرا طوال تلك المسافة معتمدة على رجل يقتفى الأثر قد نبه التنظيم الإرهابى بطريقة أو بأخرى إليها فاستعد للتعامل لها فى مكان حرج يصعب عليها الخروج منه دون خسائر مؤثرة ومؤلمة.

ورغم أن كثيرا من خبراء الأمن (وهم لواءات شرطة على المعاش) يحللون ما حدث على طريقة سيارات الإسعاف التى تصل إلى مكان الحادث بعد وفاة المصاب إلا أنه لا مفر من سماعهم كما فعلت جريدة الشروق.. فليس هناك مصدر آخر فى الخدمة نلجأ إليه أو يقبل التصريح بشىء خوفا من الخروج منها.

حسب مساعد وزير الداخلية الأسبق مجدى البسيونى : كان يجب تقسيم القوة المهاجمة إلى ثلاث مجموعات.. كل منها يتحرك فى طريق مختلف.. وفى توقيت مختلف.. وفى كل الحالات يجب توفير غطاء جوى استراتيجى وتنسيق كامل مع القوات المسلحة التى تمتلك خبرة هائلة فى التعامل مع الصحراء.

وحسب مساعد وزير الداخلية الأسبق محمد نور : لم تتحرك القوة المهاجمة إلا بعد معلومات وصلت للأمن الوطنى عن معسكر الإرهابيين فى الواحات.

لكن.. يبدو أن المعلومات لم تكن دقيقة أو وافية.. فقد أضاف محمد نور : أن القوة المهاجمة فوجئت بتفخيخ المعسكر وإطلاق قذائف أر بى جى وبراميل متفجرة.. إن كلمة فوجئت لا يجب أن تذكر فى مثل هذه المهام.. ولو كانت المعلومات دقيقة ووافية لما اكتفت القوة المهاجمة بأسلحتها الخفيفة التى لا تقدر على مواجهة الهاون والأر بى جى.. فهل تعمد مصدر المعلومات تضليل الشرطة؟.. ألم يكن من الضروى التأكد من وجود معسكر الإرهابيين قبل التعامل معه بواسطة مخبرين متخفين من أبناء الواحات لا يشك فيهم؟

ويؤكد ذلك أيضا اللواء فؤاد علام عضو المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب مضيفا: إن حادث الكيلو 135 بطريق الواحات يشير إلى وجود تنظيم إرهابى كبير داخل مصر .. فهل حجم التنظيم الكبير كان مفاجأة لم نعرف بها إلا بعد ما حدث؟

وحسب شهادة الناجين من الحادث فإن الإرهابيين كانوا يصرون على قتل الضباط ويكتفون بجرح الجنود فى محاولة لاستمالة الجنود إليهم وهو أمر يحتاج إلى تحليل وفهم عميقين حتى لا نفاجأ بما يسعى الإرهابيون إلى تحقيقه من وراء تلك التفرقة فيما بعد.

وأكاد أجن من التسريبات الصوتية التى نجدها بعد كل عملية إرهابية على شبكة الإنترنت لتنتشر فى ثوان على المواقع الإخبارية وحسابات السوشيال ميديا.. ولا يكفى أن تنكر الداخلية صحتها.. ولا يكفى أن تطالبنا بحذفها وعدم سماعها.. وإنما عليها أن تكشف من سجلها؟.. ومن بثها؟.. والأهم أن تسارع قبل غيرها ولو فى بيانات متتالية إلى ذكر ما حدث.

لقد لعبت التسريبات دورا مؤسفا فى إفساد كثير من الأمور السياسية المحلية والإقليمية.. وقد شاع بث بعضها على فضائيات بعينها دون حساب أو عقاب.. ولم تحتج جهة رسمية.. بل.. كان هناك تشجيع عليها.. وممن فعلوا ذلك أحمد موسى الذى نجد الآن من يطالب بإيقافه عن الظهور بعد أن سرب تسجيلا صوتيا عن الحادث الأخير.. فلم سكتنا عما بث من قبل وغضبنا ممن بثه فيما بعد؟.. المباح مباح.. والممنوع ممنوع.. والقانون هو الفيصل.

ويسهل على أقل المتابعين لما يجرى فى مصر من نجاحات سياسية أن يدرك أن الإرهاب لا يتردد فى إفسادها بعملية ينفذها تدمى القلوب وتثير الأحزان.

أنا مؤمن بذلك تماما.

بعد نجاح مصر فى تحقيق المصالحة الفلسطينية بعد عشر سنوات من الانقسامات والخلافات والحروب الأهلية رحت أنتظر عملية إرهابية تطغى على ما حدث.

وقد سمعت فى غزة من يحيى السنوار مسئول حماس هناك أن منظمته نفذت كثيرًا من الإجراءات للحد من ظاهرة تسلل الإرهابيين إلى سيناء.. مثل تسوية الحدود من الهضاب والتلال بعرض سبعين مترا حتى لا تساعد الإرهابيين فى الاختباء.. ومد أسلاك شائكة بطول الحدود.. وتشييد أبراج مراقبة مزودة بكاميرات متطورة.. وكانت هناك إجراءات أخرى على الشواطئ المشتركة.

أكثر من ذلك قامت حماس بدوريات أمنية فى سيناء لمنع الإرهابيين من دخول سيناء.. وفى نهاية أغسطس الماضى قبضت إحدى الدوريات على انتحارى لكنه فجر نفسه فقتل شخصا وأصاب آخر.

وسمعت أيضا: أن حماس سلمت متهمين فى قضايا إرهابية ساهموا فى عمليات على أرضنا.

وكما هو متوقع انكمشت العمليات الإرهابية فى سيناء.. وحوصرت التنظيمات الإرهابية هناك.. ولم يكن أمامها لتأكل سوى أن تسرق بنكا.

وكان لابد من فتح جبهة أخرى.. فكانت الواحات بكل ما فيها من فراغ.. وبسهولة اتصالها بتنظيمات ليبيا الإرهابية.. وهو ما يفرض علينا تحويل تلك المنطقة الشاسعة إلى منطقة عسكرية ليسهل السيطرة عليها بالأسلحة الثقيلة والتغطية الجوية.

والمؤكد أن تحقيق الداخلية سيتوسع ليشمل أمورًا فنية أخرى ولكن لا يجوز أن ينتهى التحقيق دون أن نعرف أهم ما توصل إليه دون الكشف عن الأمور الأمنية.. هذا حق الشعب على الشرطة.. أليس الشهداء من أهلنا وناسنا؟