رامي المتولي يكتب: كراهية العنف منهج أنجلينا جولى فى رابع أفلامها كمخرجة First they killed My Father

مقالات الرأي



أربع سنوات ربما تكون فترة قصيرة فى ذاكرة أى طفل فى العالم، لكن فى الحقيقة هذه السنوات ذكراها اكبر وأضخم فى ذهن لونج أونج الطفلة الناجية من فترة حكم الخمير الحمر القصيرة زمنيًا فى كمبوديا لكنها كبيرة ومؤثرة فى حياة هذه الطفلة التى كانت دون العاشرة فى سبعينيات القرن الماضى وكاتبة ومفكرة الآن كتبت تجربتها فى كتاب يحمل عنوان First They Killed My Father والذى تحول لفيلم مخرجته أنجلينا جولى.

حقول السخرة التى أنشأها الخمير الحمر بعد السيطرة على كمبوديا فى الفترة من عام 1975 وحتى 1979، أربع سنوات عانت خلالها لونج مع اسرتها التى كانت مستهدفة من قبل قوات الخمير الحمر ليس لشخصهم ولكن للعداء السياسى بين الخمير الحمر والحكومة الملكية التى كان يعمل تحت مظلتها والدها وحياتهم السالمة فى العاصمة بنوم بنه قبل سقوطها فى قبضة النظام الشيوعى المتشدد.

السنوات الأربع امتد تأثيرها لمستوى أضخم وأكبر، فيما بدا خلاص المحاصرين العاملين فى حقول الموت المدارة بواسطة الخمير الحمر على يد القوات الفيتنامية التى اجتاحت كمبوديا للدفاع عن أرضها بسبب عمليات النهب العسكرية التى نفذها الخمير الحمر ضد أراضيها فى محاولة استباقية لمنعهم من الهجوم، لكن فى النهاية سقط الخمير الحمر وتراجعوا إلى الغرب مسيطرين على مناطق واسعة ومدعومين من دول كبرى ومع بداية الألفية الجديدة لم يعد هناك وجود فعلى للخمير الحمر.

كتاب لونج صدر عام 2000 العام التالى بعد سقوط آخر قادة الخمير الحمر تا موك، والذى التقطته نجمة هوليوود أنجلينا جولى بعد 5 أعوام لتصنع رابع تجاربها الإخراجية بمساعدة ابنها الأكبر الذى تبنته من كمبوديا مادوكس، لتبث الحياة فى المذكرات ومرة أخرى تدين نظام الخمير الحمر بما ارتكبه من مذابح واستعباد للكثير من المدنيين العزل، ويتأكد اكثر الخط الذى تنتهجه أنجلينا والمكون لمشروعها الفنى عمومًا والذى تسيطر عليه القصص الإنسانية والصمود أثناء الأزمات والحروب، فمن أصل 4 أعمال، 3 منها تسير ضمن إطار الصمود والقيم الإنسانية، من الحرب البوسنية الصربية جاءت قصة الحب المعقدة فى In the Land of Blood and Honey عام 2011 وعام 2014 جاءت القصة الحقيقية لزامبرينى البطل الأوليمبى والمحارب القديم من الحرب العالمية الثانية فى Unbroken، وأخيرًا فيلمها للعام الجارى الذى يجسد جانبا من المعاناة التى شهدها الكمبوديون فى الحرب الأهلية التى عصفت بهم من السبعينيات وحتى نهاية التسعينيات من القرن الماضى.

لم تختلف الملامح التى تعتمدها أنجلينا فى إخراج رابع أفلامها كثيرًا عن مضمون أفلامها السابقة، اعتمادها الأساسى على قوة الأداء التمثيلى وتكثيف دفعات من المشاعر توجه الجمهور لخدمة قضيتها التى تهدف للتعاطف الإنسانى للناجين من المواقف العنيفة وبالتالى نبذ العنف وكراهية كل ما هو دموى وراديكالى وهادف لقتل وتشريد البشر أيا كانت جنسياتهم أو دياناتهم أو آرائهم السياسية وهو ما يتمثل بعدة صور فى فيلمها الأخير، والذى لم تتدخل لتغيير عنوانه عن الأصل الذى اختارته الكاتبة وصاحبة القصة خاصة أنه يعبر بشكل كبير عن المأساة ويرسم جوانبها للمشاهد حتى قبل المشاهدة أو معرفة القصة "فى البدء قتلوا أبى" هو العنوان، التخيل الأول هو لابنة تعانى من بعد موت ابيها وهو ما حدث بالفعل، الأب الذى كان العمود الأساسى الذى تجتمع عنده الأسرة وتشد عودها بمساعدته وتدخلاته الدائمة قبل اجتياح الخمير الحمر وبعده للدفاع عن افرادها بحنان وتوجيه سليم ظل محفورا فى ذاكرة الابنة وترجمته انجلينا بصريًا وحواريًا بشكل يجعله بطل اسطورى مات دفاعًا عن أسرته ومبادئه معًا دون أن يخل بأى منهما.

ملامح الأب والمقاتل با أونج والتى حولها على الشاشة فويونج كومفيك والذى قدم أداء عبقرياى وبسيطا يمنعه أن يكون الأكثر تميزًا فى الفيلم، الطفلة التى قدمت أداء شخصية لونج، وهى ساريوم سرى موش البالغة من العمر 9 سنوات ويعد الفيلم اول عمل لها كممثلة لكن هذا لم يمنع أن تثبت جدارة وتفوقا فى الأداء تتخطى ممثلين محترفين وبالطبع تبدو بصمة أنجلينا فى إدارة الممثلين واضحة خاصة أنها إحدى ادواتها الأساسية لخلق الدفعات الشعورية التى تعتمد عليها فى بناء افلامها كمخرجة.

موهبة ساريوم الفطرية سهلت الكثير من المهام على انجلينا مع اعتماد هذا الفيلم على الأداء التمثيلى أكثر من التعبير بالصورة والألوان كما كان الحال فى فيلم Unbroken، الملامح الجامدة التى تتحول بين التخبط وعدم الفهم إلى الخوف ثم الغضب والإصرار والتى ساهم فى ابرازها لجوء أنجلينا للقطات المقربة جدا من ساريوم أو أن تصبح الكاميرا هى عينها لتشاهد تفاصيل ترغب أنجلينا فى تضخيمها كالابتسامة الصفراء ومحاولة التودد من فرد قوات الخمير الحمر وهو يستولى على فستانها الأحمر التى احتلت الكاميرا فيها زاوية الرؤية الخاصة بلونج والمقارنة التالية مع ذكرى ارتدائها للفستان الأحمر وتفاصيله قبل الاجتياح فى منزلهم ببنوم بنه.

المقارنات عمومًا كانت الاداة التعبيرية الأبرز فى الفيلم والتى اختارتها أنجلينا لتكون سلاحها ضد عنف الخمير الحمر والتأكيد على مذابحهم وقسوتهم، التى ابرزتها بقوة فى مشاهد تدريبهم للأطفال حتى يكونوا الجنود الصغار والجواسيس على العاملين فى المعسكرات كجزء من تربية النشء عند الخمير الحمر فى مقابل تربية والدها ووالدتها لها ولاخوتها ومساحة الحرية الممنوحة لهم، أو أن تجبر المشاهد على المقارنة بين فظائع الخمير الحمر فى التعامل مع المعارضين فى مقابل ما فعله الناجون من القصف والعمل فى حقول الموت مع فرد قوات الخمير الحرب بعد وقوعه فى أيديهم.

الفيلم وثيقة جديدة تدين بها أنجلينا الخمير الحمر قولا وفعلا بما ارتكبوه من مذابح بشكل مباشر وتدين أيضًا بشكل غير مباشر أصحاب الآراء والعقائد السياسية والاقتصادية التى تحولت من أفكار من المفترض أن تترجم لرفاهية البشر إلى أداة مسببة للقتل والتشريد ليس فقط فى الماضى لكن فى الحاضر أيضًا.