طارق الشناوي يكتب: لماذا يتعجلون الرحيل؟

الفجر الفني

طارق الشناوي
طارق الشناوي


برغم تواجدى فى (قرطاج) بتونس قبل نحو خمسة أيام إلا أن الفنانة القديرة شادية تفرض وجودها على مشاعرى، مثلما فرضت حضورها أيضا فى الشارع التونسى وفى كواليس المهرجان.

لم ألتق شادية مباشرة إلا مرة واحدة فى منزل أبيها الروحى الموسيقار الكبير محمود الشريف، والذى كانت تطلق عليه (خوفو) الموسيقى الشرقية، وذلك من فرط اعترافها بقيمة عطائه على الموسيقى الشرقية كلها، وخاصة فى تشكيل ملامح شادية الغنائية، فهو ومنير مراد قدما منذ البداية أجمل وأعمق ما سمعناه من شادية منذ انطلاقها فى نهاية الأربعينيات وحتى الستينيات، ولم يتوقف التعامل الفنى بينها وبين الشريف ومراد بعد ذلك، ولكن كانت هناك مساهمات واضحة لآخرين مثل الموجى وبليغ حمدى وخالد الأمير وغيرهم، كانت الجلسة التى جمعتنا، الشريف وشادية وأنا، فنية ودافئة بمصاحبة عود محمود الشريف وصوت شادية فى أغنية (غربتنى الدنيا عنك يا حبيبى)، أهدانى بعدها الأستاذ محمود الشريف الشريط وعليه بروفة تجمعه وشادية، والغريب ولسبب ما ربما يعود لخلاف فنى عابر، فإن التى سجلت الأغنية بصوتها ياسمين الخيام، بينما البروفة لشادية أهديتها أنا إلى برنامج إذاعى (من تسجيلات الهواة) الذى كانت تقدمه الإذاعية مشيرة كامل على موجات البرنامج العام، حكيت فيه تفاصيل الأغنية، وأتمنى ألا تُهمل الإذاعة المصرية هذا البرنامج الذى يحتفظ بمئات من التسجيلات النادرة، (غربتنى الدنيا عنك) واحدة منها.

لا أستطيع فى الحقيقة أن أنعزل فى إطار مهرجان سينمائى مهما بلغت أهمية ندواته وأفلامه بعيدا عن مشاعرى وما يجرى فى مصر، أتلقى العديد من المكالمات للحديث عن شادية ورأيى الشخصى أن تقييم المشوار فى هذا التوقيت بمثابة إعلان مبكر عن نهايته، ولا أنكر نهم الصحافة، فأنا واحد من أبناء المهنة، وأدرك قطعا أن هناك شغفا لدى القارئ بمثل هذه المتابعات.

ولكن علينا أن ننتظر، وقبل ذلك أن نتوجه بالدعاء إلى الله لكى يحفظها ويبقيها لنا، ولهذا أتساءل: ما هى جدوى نشر صورة لشادية وهى فى العناية المركزة والأجهزة الطبية تحاصرها؟!!، هل صرنا جميعا من أتباع صحافة (الباباراتزى) المتخصصة فى اقتناص صور خاصة غير مسموح بتداولها، تتلصص كاميرات تلك الصحف على حياة المشاهير؟!!، كلنا نعلم أن شادية لم تكن ترحب أبدا بنشر صورتها، وذلك منذ أكثر من 30 عاما مع قرار اعتزالها، صحيح فى مرات قليلة شاهدنا لها صورة أو أكثر، ولكن كانت صورا مختلسة، حتى عندما كرمها الرئيس المؤقت عدلى منصور، قبل أربع سنوات، بجائزة (عيد الفن) لم يتمكن الإذاعى المكلف بتسجيل كلماتها، وهو المخضرم إمام عمر من رؤيتها، بل أعطى جهاز التسجيل لأحد أفراد أسرتها وانتظر هو فى غرفة الصالون، وسجلت شادية الكلمة، وإمام لم يُسمح له حتى بالتسليم عليها، اكتفت هى بتوصيل تحية شفهية إليه عن طريق ابن شقيقها، وتابعنا جميعا الكلمة فى الحفل الذى أقيم بدار الأوبرا المصرية، بينما فى نفس الحفل حضرت فاتن حمامة وماجدة الصباحى وتسلمتا الجائزة من المستشار عدلى منصور، وهو مع الأسف آخر (عيد فن) قبل أن يتم إغلاق هذا الباب نهائيا ولا أدرى لماذا؟.

شادية حريصة على متابعة الأعمال الفنية، ومن الممكن أن تتصل بفنان للثناء على دوره، ولكنها قررت ألا تواجه الناس بالصورة، ولها بعد ثورة 25 يناير أكثر من تسجيل صوتى، فما هى العبقرية إذن وما هو الإنجاز فى نشر صورة لها وهى فى العناية المركزة؟!!، الأكثر من ذلك، لماذا تتعجل بعض الصحف والمواقع نشر خبر الرحيل؟!!.

فى مصر قرر مهرجان القاهرة السينمائى، الذى يفتتح يوم 21، إهداء دورته إلى شادية مصحوبة بدعوات بالشفاء العاجل، وهو موقف صائب من مهرجان يعلم تماما أن عطاء شادية كممث12لة لا يقل أبدا عن عطائها الغنائى، فى المجالين كانت هى الفنانة الكبيرة التى تقف فى أول الصف، قدمت لنا ما يربو على 110 أفلام وتابعناها بطلة تتصدر الأفيش حتى قبل اعتزالها بعامين ودعتنا سينمائيا بفيلم (لا تسألنى من أنا) المأخوذ عن قصة لإحسان عبد القدوس.

إذا كانت فاتن هى أكثر الفنانات تعاملا مع أدب إحسان، فإن شادية هى الأوفر حظا فى التواجد على الخريطة السينمائية لنجيب محفوظ، وفى أعمال لا تنسى مثل (اللص والكلاب) و(الطريق) و(وميرامار) و(زقاق المدق) وغيرها، حيث كانت هى المرأة المصرية بنت البلد كما تخيلها محفوظ على الورق، وكما أكدتها هى أيضا على الشاشة وأيضا فى أغانيها والتى جعلتها تحظى وعن جدارة بلقب صوت مصر، ومن أجل صوت مصر التى يتابعونها فى كل العالم العربى، أتمنى أن يتوقف سيل الشائعات، فلا نملك حقيقة سوى الدعاء لها لعبور الأزمة الصحية، فهذا هو الحد الأدنى للوفاء.

الوفاء كان أيضا طابعا مميزا لمهرجان قرطاج هذه الدورة، وظهر أمس أقيم معرض للصور تكريما لسمير فريد، وذلك مع ثلاثة من الراحلين فى تونس الذين غيبهم الموت هذا العام، وهم رائد التصوير الفوتوغرافى عبد العزيز فريحة والمخرجة كلثوم برناز ومدير التصوير السينمائى على عبد الله.

حتى العام الماضى فى الدورة الخمسينية الذهبية لمرور 50 عاما على افتتاح المهرجان الذى انطلقت دورته الأولى عام 1966، كان لسمير، وأيضا كاتب هذه السطور، كلمة فى كتاب ضخم حكا فيه سمير عن علاقته بالمهرجان، والتى بدأت مع افتتاحه بينما تناولت أنا حكايتى مع المهرجان فى الربع قرن الأخير التى بدأت عام 1992.

كان من المفترض أيضا أن يحضر سمير للمشاركة العام الماضى فى تكريم أقيم ليوسف شاهين ضمن من حصلوا على (التانيت الذهبى) طوال تاريخ المهرجان، ولكن بسبب ظروفه الصحية لم يستطع تلبية الدعوة، إلا أن حضوره كان ولا يزال طاغيا.

علاقة حميمة ربطت بين قرطاج وسمير فريد، هذا المهرجان الذى تبنى فكرته الطاهر شريعة الناقد التونسى الراحل الكبير، الذى غادرنا قبل نحو 7 سنوات، ولأول مرة أكتشف أن لسمير عمقا استراتيجيا، ليس فقط فى الدفاع عن قرطاج، ولكن أيضا فى بداية التكوين، وكما أشارت إدارة المهرجان إلى أنه أهدى إحدى الجمعيات السينمائية التونسية 500 خطاب متبادل بينه وبين الطاهر شريعة، ومن المؤكد أنها خطابات مكتوبة باليد قبل عصر الكتابة الإلكترونية، لأن سمير كان وحتى الرحيل مخلصا للكتابة بالورق والقلم. لم أتابع بعد المعرض بسبب ظروف الطباعة التى تجعلنى أسارع بتسليم المقال قبل الواحدة بتوقيت مصر، وهو موعد افتتاح معرض صور سمير فريد، وسوف تتسلم التكريم أرملته السيدة منى غويبة. مهرجان قرطاج حقا هو أكثر مهرجان عربى يحتفى بالنقد والنقاد، وكان سمير فريد هو العنوان، والذى احتل مكانة مصرية وعربية ودولية يستحقها وعن جدارة.

نقلًا عن المصري اليوم