طارق الشناوي يكتب: لماذا زخم هناك.. وخواء هنا؟

الفجر الفني

طارق الشناوي
طارق الشناوي


يا ليتها تعود تلك الأيام التى تحولت مع الزمن إلى نكتة ساخرة «قصة ولّا مناظر»، كنا نتابع فيها الجمهور المصرى، أتحدث عن الثمانينيات وحتى نهاية التسعينيات عندما كانت الطوابير تمتد أمام دور العرض السينمائية بوسط المدينة فى القاهرة، أثناء أيام المهرجان والناس تسأل عن حالة الشريط السينمائى، وهل هو ملىء حقا بالمشاهد واللقطات الساخنة، وبناء على الإجابة يتحدد مصير الفيلم، بالطبع كلما كانت الرقابة متسامحة حقق الفيلم رواجا أكبر.

كان هناك فى الحد الأدنى جمهور، ورغم أنه لا يقطع التذكرة من أجل قيمة الفيلم ولكن لأسباب أخرى، إلا أنه فى نهاية الأمر جمهور، ولكن فى الألفية الثالثة وربما قبلها ببضع سنوات لم نعد نعثر على هذا الجمهور أبدا، يبدو وكأنه قد خاصم أفلام المهرجان ولم تعد تعنيه القصة ولا حتى المناظر.

قالوا فى تفسير السبب إن أفلام المناظر صارت مفتوحة على «النت» وبالمجان، فلماذا يبدد وقته وتضيع أيضا نقوده التى باتت قليلة فى أفلام، ولن يجد فيها بالضرورة الحد المشبع من المناظر؟ بالتأكيد غياب الجمهور لا يمكن حصره فقط فى هذا السبب المباشر، ولكن الأمر متجاوز هذا التفسير، فهو أساسا يكمن فى غياب ثقافة المهرجانات وأهمية حضور أفلامه، ولهذا أجدنى فى المقابل أشعر بسعادة بالغة وأنا أشاهد طابورا ممتدا فى شارع «الحبيب بورقيبة»، حيث تقام فعاليات مهرجان «قرطاج» الذى يعلن مساءَ غدٍ ختام تلك الدورة التى تحمل رقم 28، هو جمهور مختلف جدا عن أغلب عشاق السينما، لم يأت لكى يشاهد نجما أو نجمة، بل فى أحيان كثيرة هو يعامل السينما التسجيلية بحفاوة مثل تلك التى يتعامل بها مع الفيلم الروائى، إنه الجمهور التونسى العاشق الذى تكتشف أنه متذوق لكل أنواع الفنون، حتى إن بعضهم من الممكن عندما يعرف هويتى، أجده يسألنى عن موشح أو دور قديم غناه المطرب صالح عبدالحى، بينما لو سألت نصف طلبة معهد الموسيقى العربية فى مصر من المتخصصين، أتحداك لو عرفوا أساسا أنه قد تواجد فى تاريخنا الغنائى مطرب اسمه صالح عبدالحى.

الناس هنا فنانون بالسليقة، ولا تفرق معهم هذا مصرى أو سورى أو تونسى، هم ينحازون للفن الصادق.

لماذا الشغف بالسينما.. أقصد تحديدا بالمهرجان وأفلامه تتضاءل فى مصر بينما لا يزال الجمهور التونسى يعشق المهرجان إلى درجة الهوس؟ أنا أتابع قرطاج منذ عام 1992 ودائما هناك إقبال جماهيرى ضخم، كانت لمهرجان القاهرة تجاربه مؤخرا فى عرض الأفلام بوسط المدينة، واكتشفنا أيضا أن الإقبال لا يزال ضعيفا جدا، ما الفارق بين هنا وهناك، هل من الممكن أن نعثر على إجابة؟

فى كلمة المخرج الفلسطينى رشيد مشهراوى قبل عرض فيلمه « الكتابة على الثلج» الذى افتتح به المهرجان، حرص على أن يهدى الفيلم للجمهور، واعتبره حالة استثنائية على مستوى العالم كله، وهو حقا كذلك، وهو نفس ما فعله المخرج التونسى الكبير فريد بوغدير الذى كُرّم العام الماضى فى افتتاح المهرجان عن إنجازه الفنى، حيث كان محقا وصاحب رؤية ثاقبة عندما قرر إهداء جائزته للجمهور التونسى فى اليوبيل الذهبى للمهرجان «50 عاما على انطلاقه»، فهو المهرجان الأقدم عربيا وأفريقيا، بدأت دورته الأولى عام 1966، وجاء بعده مهرجان القاهرة بعشرة أعوام 1976.

أشارك بالحضور فى أغلب المهرجانات السينمائية العربية، وعينى ليست فقط على ما يجرى على الشاشة ولكنى أتابع أيضا الشارع، لم أر حالة الشغف مثل تلك التى عليها جمهور تونس الخضراء الحبيبة، جمهور صاحب مزاج فنى راق، يناصر الفن الجميل على الشاشة الفضية كلغة سينمائية، ويدافع عن الجمال الإبداعى، يُسقط تماما الحدود الجغرافية، لا يصفق فقط للفيلم التونسى، ولكنه على استعداد لأن يصفق أكثر للفيلم المغربى أو المصرى أو الكينى أو اللبنانى لو أعجبه أكثر.

الجمهور بالمئات يقف على باب الفندق الذى يقام فيه المهرجان، فى شارع يحمل اسم وتمثال الحبيب بورقيبة، أول رئيس تونسى، هناك رغبة عارمة للعودة مرة أخرى لزمن بورقيبة، الناس فى الشارع باتت تُقدّر هذا الرجل الذى راهن على التعليم، وعلى علمانية الدولة، وعلى حرية المرأة، فصارت هى التى تدافع عن بقاء الدولة بعيدا عن تلك الموجات التى نراها فى العديد من الدول العربية وهى تتدثر عنوة بالدين، وأظنها تُمثل عمقاً استراتيجياً فى التعاطى مع الثقافة والفنون. المهرجان لا يغفل أبدا العامل السياسى، فهو أفريقى وعربى الهوى، ويحرص على ذلك مع بقاء جزء مهم لأمريكا اللاتينية، يوجه رسالة للعالم عندما يحرص للعام الثالث أو الرابع على إقامة عروضه فى السجن، ويدعو الضيوف لكى يشاهدوا بأنفسهم حال السجن والمسجونين، حتى يقدموا هم للعالم الرسالة، وأتصورها الأقوى، هذا الجمهور رأيته فى إحدى الدورات التى حضرتها فى منتصف التسعينيات وهو ينحاز ويناصر فيلما مغربيا أعجبه، لم يحصل وقتها على الجائزة أكثر مما صفق لفيلم تونسى حصل على «التانيت».

جمهور متذوق للفن السابع، لقد علمت من بعض الأصدقاء أنه ليس فقط جمهور تونس العاصمة، ولكنه يأتى من العديد من المحافظات التونسية الأخرى، فلقد حرصوا على أن يقصدوا المهرجان من كل أنحاء البلاد، ويتكبدوا مصاريف الإقامة فى فنادق أو شقق صغيرة لكى يمارسوا بحرية حبهم وعشقهم للسينما.

كل المظاهر التى تُصاحب المهرجان، التكريمات ولجان التحكيم والفعاليات ترى فيها الحرص على بقاء الهوية الخاصة لقرطاج، فلا تطغى ملامحه العربية على الأفريقية ولا العكس أيضا، يحركه ميزان من ذهب، يسرى فى كل أوصاله ليظل رافعا شعار العربى الأفريقى.

المهرجان لا يكتفى فقط بالأفلام، بقدر ما يحتفى بمن ساهموا بالفكر فى انطلاقه، ويمنح من صنعوا أيامه حفاوة وبهاء يستحقونه، وهو بالمناسبة لا يطلق على نفسه «مهرجان» بل بكل تواضع اسمه الرسمى «أيام»، والميديا هى التى تمنحه توصيف مهرجان، وينجح فى تحقيق هدفه الأسمى بهذا الجمهور الذى يستحق حتماً وعن جدارة تتويجه بـ«التانيت» الذهبى!!

نقلا عن المصري اليوم