عادل حمودة يكتب: مصر فى حاجة لثورة ثقافية

مقالات الرأي



■ فقراء ومتعصبون ولا نقرأ ولا نعمل وندمن المخدرات ونميل للتسول ونؤمن بالخرافة فهل نحن خير أمة أخرجت للناس؟

■ أكثر من 108 آلاف مسجد وزاوية و10 آلاف معهد أزهرى مقابل 140 جمعية ثقافية و50 ألف قارئ للكتب فقط سنويا

■ 5 ملايين لاجئ من 60 دولة يعيشون فى مصر ويحولون مليارا ونصف المليار دولار سنويا إلى بلادهم بسبب تقاعسنا عن العمل

■30 مليون مواطن بلا تعليم و19 مليون شاب تزوجوا تحت 18 سنة رغم البطالة المتزايدة!


الكتابة الجيدة تصنع حياة جديدة.. تتجاوز سلطة الماضى بكل أنواعها.. وتعلن العصيان على جميع الموروثات الاجتماعية التى تأخذ شكل القدر أو شكل الوثن.. وترفض الدوران حول أضرحة لا يوجد فيها أحد.

لكن.. تغيير المعتقدات الخاطئة يأخذ وقتا طويلا.. فمن الصعب كسر عادات الناس.. أو تحطيم تصوراتهم بين عشية وضحاها.

التغيير مسألة وقت لا أكثر.. فأهم ما فى الإنسان هو قابليته للتحول نحو الأفضل.. والتكيف مع المناخات المختلفة.

يتعلم الإنسان من تجاربه وأخطائه بخلاف الفأر الذى يقع فى المصيدة بنفس إغراء قطعة الجبن التى أوقعت بأجداده.. وبخلاف حبة الطماطم التى لا تغير من لونها وطعمها سواء زرعت فى أرض سوداء أو أنتجت فى صوبة.

إن رأس الإنسان بحكم الاختيار والتعلم رحم لا تعرف ماذا يتشكل فيه؟.. أو ما سيخرج منه؟.. أو ما سيتوصل إليه؟.

لكن.. المشكلة فيما يدخل الرأس من معلومات خاطئة.. مضللة.. وربما فاسدة.. تأتى من منابر فى مساجد.. أو من مقالات فى صحف.. أو من معلم فى مدرسة.. وتنتهى بنا إلى مزيد من التخلف.. والعجز عن مسايرة التطور الذى يحدث فى كل لحظة ويزيد من رفاهية العالم من حولنا.

المشكلة فى الجهل سواء صدر ممن يدعى العلم أو تلقاه ممن لا يمتلك القدرة على التمييز بين الغث من السمين.

الجهل هو الغذاء الشهى الذى يعيش عليه التخلف.

الجهل هو الذى فرض علينا قرونا من عصور الانحطاط.. سمكا مجلدا حتى تسممنا بمادة الزئبق.. وأصيبت عقولنا بفقر الدم .

إن ثلث سكان مصر (34%) أقل من 15 سنة وهم فى حاجة إلى تعليم متطور غير متوفر بل يعانى ربعهم من الأمية (18 مليونا و434 ألفا).

أكثر من ذلك يتسرب ملايين التلاميذ من التعليم بمراحله الثلاث بنسبة 7% كما أن 26% من السكان لم يلتحقوا بالتعليم أصلا.

ليصل عدد الأميين والمتسربين إلى أكثر من ثلاثين مليون شاب لا يملك واحد منهم ما يؤهله لعمل يتوافق مع التكنولوجيا التى فرضت نفسها على العصر والفرصة الوحيدة الشريفة أمامهم هى بيع مناديل الورق فى إشارات المرور.

وأسوأ ما فى الجهل أنه لا يسعى إلى المعرفة وإنما يواجهها.. ولا يكتفى بهروبه من أماكن العلم وإنما يحاربها.. ويسعى إلى إغلاقها.. ولا يغرق وحده فى الخرافة وإنما يصر على أن يشدنا إليها.

الجهل فى بلادنا سعيد بجهله.. واثق من نفسه.. مستعد للموت فى سبيل جهله.. جهل عصامى بنى جهله بنفسه.

إن الشيخ الذى يضيع وقته فى فتوى دخول الحمام بالقدم اليمنى أم اليسرى جاهل ولو نافس فئران المكتبة فى التهام الكتب.

والشيخ الذى انتهى علمه الشرعى بعد سنوات طويلة من الدراسة فى الأزهر إلى أن الجنس بين الزوجين بدون ملابس حرام هو رجل يعانى من كبت ما فى سنوات شيخوخته.

والشيخ الذى فاجأنا بفتوى إرضاع الكبير خمس مرات حتى تحرم المرأة على زميلها فى العمل مصاب بنقص فى الكالسيوم كان يمكن تعويضه بجرعة من حليب كامل الدسم.

والشيخ الذى اعتبر التطعيم ضد شلل الأطفال مؤامرة من الغرب لإصابة المسلمين بالعقم سيئ الحظ لأن الطب الحديث لم يصل بعد إلى جراحة لتغيير المخ بآخر أكثر نضجا.

والمعلم الذى يدعى أن شعر تلميذاته فى الحضانة سيتحول إلى ثعابين يوم القيامة جاهل يحتاج إلى مصحة نفسية لا دورة تربوية.

والمعلم الذى يحرض طلابه على استخدام العنف باسم الجهاد ضد وطنه هو قاتل محترف يحصل على أجره ملوثا بدم الضحايا الأبرياء.

والمعلم الذى لا يؤمن برسالته فى تغيير المجتمع وتطويره بخلق أجيال جديدة أكثر علما وفهما يفقد ضميره قبل أن يفقد مهنته.

والمعلم الذى لا يخرج علمه إلا لمن يدفع له هو رسول علم تحول إلى تاجر خردة يسرح على عربة روبابيكيا.

والكاتب الذى يدعو الناس إلى الفضيلة وهو غارق فى الرذيلة جاهل بالصورة التى يجب أن يكون عليها ليحتذى به الناس فلا يمكن أن يتغنى بالرحمة ونفسه مسكونة بالبشاعة ولا يمكن أن يكتب عن الطهارة وهو غارق فى الدعارة.

ويوصف هؤلاء أنفسهم بأنهم قادة الرأى وصناع الضمير وأنصار جبهة الدفاع عن القيم والأخلاق ولكنهم فى الحقيقة ليسوا أكثر من مرضى يعانون من الفصام العقلى وكل ما يرونه خيالات وكل ما يقولونه ضلالات.

وتكشف الإحصائيات الرسمية عن طبيعة تقدم المؤسسة الدينية بفارق كبير جدا عن باقى المؤسسات التى تؤثر فى صناعة الضمير العام.

إن فى مصر 83608 مسجدا و24845 زاوية (بجملة 108453 مسجدا وزاوية) لكل منها شيخ ومؤذن وخادم بجانب 9794 معهدا أزهريا تستوعب فى مراحل التعليم المختلفة مليونين و86 ألف طالب وطالبة بخلاف جامعة الأزهر التى تحتل المرتبة الأولى فى عدد الطلاب بالجامعات الحكومية ليبلغ عددهم 297 ألف طالب بنسبة 17.6% تليها جامعة القاهرة بعدد 235 ألف طالب بنسبة 13.9% فقط.

مؤسسة عملاقة.. مؤثرة.. قادرة على نشر أفكارها.. دون أن تستجيب لأحد فى مراجعتها.. ناشرة ولو لم تقصد سحب الدولة الدينية وإن ادعت غير ذلك.

وفى الوقت نفسه.. نجد مؤسسات ثقافية مدنية هزيلة.. فاشلة فى أداء دورها.. بل عاجزة عن أن تصلب طولها.. عدد الجمعيات الثقافية لا يزيد على 140 جمعية.. يعمل بها 1831 موظفا.. وأغلبها متوقف النشاط.. لا يقيم ندوة.. ولا تصدر عنه نشرة.. ولا يتبنى فكرة.

أما دور العرض فعددها 92 سينما.. بها 75214 مقعدا.. ولا يزيد عدد روادها على 12 مليون شخص سنويا.

ولا يصدر فى مصر أكثر من 1500 كتاب كل عام لا يقرأها أكثر من 50 ألف مواطن.

وباختفاء المؤسسات الثقافية من ساحة التأثير تتضاعف مسئولية المؤسسة الدينية فى تغيير السلوكيات السلبية التى ضاعفت من حدة التخلف.. ولكن.. هل نجحت فى ذلك؟.

إن الرسول عليه الصلاة والسلام عندما دعانا للزواج والإنجاب لم يكن ليباهى بأمته بمسلمين ضعفاء.. أميين.. متخلفين.. عاجزين عن التفاهم مع العصر.. يعيشون فى عشوائيات.. ويعانون من الهزال.. لم يكن يقصد العدد وإنما النوعية .

كل عام يضاف إلى مصر مليونى مولود جديد.. بمعدل زيادة يزيد على اثنين ونصف فى المائة.. ليضاف هؤلاء إلى التكتلات الفقيرة المحتاجة العاطلة وربما المشردة والمنحرفة دون أن تهتز عمامة واحدة فى الأزهر لتغير من الأفكار الخاطئة السائدة.. مثل محدش بيبات من غير عشاء .. أو المولود يأتى برزقه .. أو إنها إرادة الله .. فهل يقبل سبحانه وتعالى بما وصل إليه حال البشر فى بلادنا؟.. هل يقبل بمواطن ضعيف صحيا.. جاهل تعليميا.. منحرف أخلاقيا؟.. هل هذه مواصفات خير أمة أخرجت للناس؟.

وحسب التعداد الأخير فإن نحو 19 مليون شاب و18 مليون فتاة تزوجوا تحت سن 18 سنة وهى كارثة اجتماعية ولو تمتعت بإباحة قانونية.. فأغلب هؤلاء لم يكملوا تعليمهم.. ولا يعيشون من مهنة مناسبة.. ولا يقدرون على مواجهة تكاليف الحياة المنفلتة الأسعار.. وما ينجبون من أطفال لا يوفرون له مستقبلا أفضل من الواقع الذى يحيط بهم.. ما يعنى أن الكارثة تتزايد يوما بعد يوم دون أن نجد من يواجهها بالتوعية المسئولة أو بالتشريع الجرىء.

وليواجه الملايين من الفقراء واقعهم المرير يلجأون إلى المخدرات وأقراص الترامادول وينفقون عليها ما يزيد على 20 مليار دولار لنجد أنفسنا فى النهاية أمة فى غيبوبة.. لا تقدر على العمل.. وتجنح نحو التسول الواضح بمد اليد للغير طلبا لحسنة أو تذللا لبقشيش.

وتنتقل ثقافة التسول من الفرد إلى المؤسسات الخدمية.. فنجد النسبة الغالبة من إعلانات الفضائيات تستحث أهل الخير للتبرع من أجل مستشفى أو توصيل مياه شرب نقية أو بناء سقف لبيوت متواضعة أو تجديد مدرسة.. ولا يتردد الأزهر فى المشاركة فى هذا السباق المتزايد منافسة سنة بعد أخرى.

وفى المقابل.. تتراجع فضيلة العمل.. ويقل نصيب المواطن منه.. فلا أحد يريد أن يبذل جهدا مناسبا لتغيير واقعه.. إلا قليلا .

وما دامت الحسنة بعشرة أمثالها فلم لا نحث القادرين لنحصل عليها طلبا لرغيف عيش أو لقرص ترامادول مخدر؟.

وما يضاعف من المأساة أن فى مصر نحو 5 ملايين لاجئ من 60 دولة يعملون نيابة عن المصريين فى البيوت والشركات والمطاعم بأجر لا يقل عن 300 دولار شهريا يرسلونها إلى بلادهم ما يفقدنا ما يزيد على مليار ونصف المليار دولار سنويا فى وقت نقترض فيه العملة الصعبة بفائدة بنكية مرتفعة أو بتكلفة اجتماعية باهظة استجابة لشروط المؤسسات الدولية لتنفيذ برنامج مؤلم للإصلاح الاقتصادى.

إذن.. نحن فقراء.. لا نتعلم.. ننجب أكثر مما نتحمل.. لا نقرأ.. لا نعمل.. نعانى من تدهور فى الخدمات.. نفضل التسول.. نؤمن بالخرافة.. ندمن المخدرات.. غائبون عن الوعى.. يأتى غيرنا ليعمل نيابة عنا.. نكذب كثيرا.. نغرق فى النميمة.. لا نحترم مواعيدنا.. لا نوفى بعهودنا.. نقترض لنتظاهر.. ننكمش جسديا.. متعصبون دينيا.. لا نطيق الآخرين.. سعداء بتخلفنا.. نضاعفه بالهروب من التعليم والزواج المبكر.. ونصر بعد ذلك كله على أننا أقدم حضارة وخير أمة.

إن بعضا من هذه الصفات تكفى لدق ناقوس الخطر.. تكفى لإعلان ثورة ثقافية.. حضارية.. جادة.. تطفو بنا من تحت الماء الذى أغرقنا.

نعم.. لابد من ثورة ثقافية تعيد تشكيلنا بما يليق.. وبما يفيد.. وبما يؤهلنا للتفاهم مع العصر الذى تجاوزنا والزمن الذى تخلفنا عنه.

إن بناء الجسور وتشييد المدن وحفر الأنفاق ومد خطوط القطارات ضرورة ملحة لكنها.. وحدها لا تكفى.. فالإنسان الذى سيتعامل معها سيفسدها لو كان متخلفا.

ثورة ثقافية.. حضارية.. تحدد بصرامة معدل الإنجاب.. وتمنع بالقانون زواج الصغيرات.. وتزيل من عار الأمية.. وتعيد للقراءة اعتبارها المفقود.. وتحفز الكسالى على العمل.. وتخرجنا من حالة الغيبوبة المخدرة التى نضع أنفسنا فيها.

أعرف أنها تحتاج إلى وقت طويل.. وجهد كبير.. وإيمان حقيقى.. ولكن.. أعرف أيضا أن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة.. وأن اليوم أفضل من الغد.

إن مصر التى تحدت قدرها فى حرب أكتوبر وفى ثورتى 25 يناير و30 يونيو تقدر لو شاءت أن تفعل المستحيل.