عادل حمودة يكتب من برلين: عشرة أيام فى ألمانيا وعينى على مصر

مقالات الرأي



طلاب التعليم الفنى: 3 أيام فى المدرسة و3 أيام فى المصنع مقابل أجر يتزايد سنويًا!

■ برنامج عمره 12 سنة لتأهيل الشباب على أعمال البرلمان حتى يصبحوا نوابًا ووزراء

■ ألمانيا اعتبرت نجاح مصر فى منع سفن الهجرة غير الشرعية طوال السنة الماضية معجزة أمنية

■ لم تصدق الصحف الكبرى أن مصريًا يعتبر اغتصاب النساء اللاتى يرتدين ملابس الجينز الممزق واجبًا وطنيًا


لا يليق مطار تيجل الدولى فى برلين بعاصمة دولة قوية وثرية ومؤثرة مثل ألمانيا.. مطار صغير.. ضيق.. عمره يقترب من السبعين عاما.. لا تجد فى طرقاته مقعدا تجلس عليه.. ولو شئت اللجوء إلى استراحة درجة طيران البيزنس فعليك الصعود بما تحمل سلما متعبا.. ولن تجد فيها ما يغرى من طعام وشراب.. وكأنك فى كانتين مدرسة ثانوية.

وطوال الخمس سنوات الماضية عجزت الحكومة عن الوفاء بتعهدها بافتتاح المطار الدولى الجديد فى ولاية براندنبرج والذى ستطلق عليه اسم المستشار الألمانى فيلى برانت وهو واحد من الحكام البارزين فى تاريخ البلاد.

كان مقررا افتتاح المطار الجديد فى 3 يونيو 2012 ولكنه تأجل أكثر من مرة حتى إن الحكومة لم تعد تحدد موعدا لافتتاحه مما عرضها لانتقادات حادة لم تستطع الرد عليها.

وفى الزيارة الأخيرة للرئيس عبد الفتاح السيسى إلى برلين وجدنا من يطالب بجدية أن تنفذ مصر المطار بعد أن نجحت فى شق التفريعة الجديدة لقناة السويس خلال سنة واحدة.

لكن ذلك لا ينفى أن ألمانيا رابع اقتصاد فى العالم بعد الولايات المتحدة والصين واليابان كما أنها الدولة الأكثر ثراء فى الاتحاد الأوروبى والأكثر جاذبية للمهاجرين الذين يحلمون بجنة من الرفاهية يتحملون فى سبيل الوصول إليها مخاطر الموت قبل طرق أبوابها وقطف ثمارها.

وقد استقبلت ألمانيا وحدها مليونًا و300 ألف لاجئ فى العامين الماضيين وتسبب ذلك فى مشاكل سياسية واجتماعية سعت حكومتها جاهدة إلى حلها بعد أن تراجع التصويت لها فى الانتخابات الأخيرة فاتحة الباب أمام يمين متشدد.

كان أبرز تلك المشاكل دمج المهاجرين المختلفين ثقافيا ونفسيا فى المجتمع بما يخفف من حدة التناقضات بين المهاجرين والمواطنين.. بين النقاب والبكينى.. بين التطرف والإلحاد.. بين التزمت فى العلاقات الخاصة وإباحة زواج المثليين.. وبين ضعف المهارات والحاجة إلى عمالة مدربة ومؤهلة قادرة على استيعاب التكنولوجيا المتطورة.

والغريب أن الأكثر كراهية للمهاجرين هم سكان الولايات الشرقية الذين قضوا سنوات عمرهم تحت حكم الشيوعية قبل توحيد ألمانيا وسقوط حائط برلين فى 9 نوفمبر 1989 بعد أن بدأ بناؤه فى 13 أغسطس 1961.

لقد تعود هؤلاء الاعتماد على الدولة فى توفير ضرورات الحياة وهو ما أفقدهم فضيلة العمل التى يؤمن بها ويصر عليها النظام الرأسمالى.

وللتخفيف من المسافة الشاسعة بين الجانبين ضخت الحكومة الفيدرالية ما يزيد على أربعة تريليونات يورو (4 آلاف مليار يورو) على البنية التحتية وتحديث شرق البلاد لكنها لا تزال تعانى من توافق البشر هناك فى مجتمعهم الجديد بقيمه المختلفة عن القيم الشيوعية التى تربوا عليها.

وقد اختفى الخط الفاصل بين برلين الشرقية وبرلين الغربية ولم يبق منه سوى خمس كتل من الحائط على سبيل التذكرة.. وهم يبيعون قطعة صغيرة من الحائط للزوار.. بجانب صور فوتوغرافية تشرح ما كان.. ولا يخلو المشهد من مجموعة نصابين من أوروبا الشرقية يسرقون أموال السياح بلعبة تشبه لعبة الثلاث ورقات.

لكن.. المشكلة ليست فى المتسللين من أوروبا الشرقية وإنما فى المتسللين من تركيا وشمال إفريقيا.. وقد دفعت الحكومة الألمانية ستة مليارات دولار لتركيا لتمنع خروج اللاجئين منها.. وأمدت مصر بقطع بحرية متطورة لمطاردة قوارب الهجرة غير الشرعية فى البحر المتوسط.. وبالفعل لم تخرج مركب واحدة من مصر منذ سنة.. وهو ما اعتبرته ألمانيا معجزة أمنية بكل المقاييس.

وفى الوقت نفسه رفضت مصر فتح مراكز لإيواء اللاجئين مقابل مساعدات مالية مغرية واعتبرتها وسيلة غير إنسانية لا تتوافق مع قيمها الأخلاقية.

لكن مصر ترحب بمبادرات ألمانية متنوعة فى التنمية البشرية مثل مبادرة تدريب الشباب فى البرلمان الألمانى التى عرفت تفاصيلها من عضو البوندستاج (البرلمان الاتحادى) أولريش شوللر الذى التقيت به فى مكتب سفيرنا النشط دبلوماسيا بدر عبد العاطى.

بدأت هذه المبادرة منذ ثلاثين سنة فى كل أنحاء العالم لكن عمرها فى مصر لا يزيد على 12 سنة.. وبمقتضاها يسافر أعضاء فى البوندستاج لاختيار شباب جامعى يتقن الألمانية ليقضى فى ألمانيا ثلاثة شهور يتدرب فيها على أعمال البرلمان ومنها مساعدة النواب فى التعرف على مشاكل الناخبين فى دوائرهم ومنها دراسة ما يستجد من تشريعات ومنها تحديد ما تحتاج الدوائر من مشروعات خدمية وإنسانية.

وحسب ما ذكر أولريش شوللر فإن البرنامج يهدف إلى خلق جسر بين النظام السياسى فى ألمانيا والنظم السياسية التى يأتى منها المتدربون.

ومن وقت إلى آخر يعقد مؤتمر للمستفيدين من البرنامج يحدد الشباب مكانه وموضوعه.. فى العام الماضى كان المؤتمر يناقش حقوق النساء فى العالم العربى.. والمؤتمر القادم سيناقش قضية الهجرة غير الشرعية.

ويضيف شوللر: لقد أسعده أن يجد بعضا ممن شاركوا فى البرنامج قد أصبحوا أعضاء فى برلمانات بلادهم أو وزراء فى حكوماتها.. أما فى مصر فقد عملوا فى السفارة الألمانية فى القاهرة.. وإن تمنيت أن يصبحوا أعضاء فى مجلس النواب المصرى.

وبجانب هذا البرنامج خصص البرلمان الألمانى برنامجا خاصا لشباب الدول العربية مدته أربعة أسابيع فقط لتدريب الطلاب على أعمال السلطة التشريعية.

والحقيقة أن مثل هذه البرامج يجب على الجامعات المصرية تبنيها لتشجيع الشباب على احتراف العمل السياسى من ناحية وتدريبهم على مهام النائب فى البرلمان من ناحية أخرى وهو ما يحفزهم لترشيح أنفسهم فى الانتخابات التشريعية فإذا ما فازوا فيها فقطعا سيؤدون مهمتهم بخبرة وبراعة لا تتوافر فى غيرهم من النواب وساعتها لن يتعرض النواب للانتقادات التى يعانون منها الآن.

وربما.. لا نعرف أن غالبية رؤساء الولايات المتحدة بدأوا مشوارهم السياسى مساعدين لسيناتور قريب منهم ثم حلوا محله قبل أن يجدوا فى أنفسهم ما يؤهلهم ويرشحهم للرئاسة.

وحسب ما سمعت من كريستيان بوهمة مسئول الشرق الأوسط فى صحيفة تاج شبيجل (120 ألف نسخة يوميا) فإن ألمانيا مهتمة بالعلاقات مع مصر وتعتبرها حليفا لها فى الشرق الأوسط ويشكلان معا محورا مهمًا ضد الإرهاب والهجرة غير الشرعية ويوما بعد يوم يزداد التعاون الاقتصادى بينهما دون الاقتراب من القضايا السياسية الحساسة مثل قضايا الحريات وحقوق الإنسان التى تعتبرها مصر شأنا داخليا لا يجب لأحد التدخل فيه.

وتتوقف الصحف الألمانية طويلا عند حظر الحكومات الأجنبية المتزايد لمواقع على شبكة الإنترنت وترصد اليونسكو 61 حالة بزيادة أكثر من ثلاثة أضعاف عما كان عليه الوضع قبل عامين منها 54 حالة فى الهند و11 حالة فى باكستان و21 حالة فى مصر التى أكدت أنها منعت هذه المواقع بسبب دعمها للإرهاب.

لكن.. لا يقل خطر تشويه سمعة مصر عن خطر الإرهاب.. إن ما ينقل عن المواقع الإخبارية من تصريحات غريبة يثير شعور الألمان بالخوف من السفر إلى مصر.. مثل تحريض أحد المحامين على اغتصاب النساء لو ارتدين ملابس كاشفة مثل الجينز الممزق واعتبر ذلك واجبا وطنيا.. ومثل الهجوم على المثليين دون تفهم لطبيعة المجتمعات المحافظة.

وبسبب تلك الصورة المشوهة عن مصر تقدمت سيدة إلى شرطة دوسلدورف ببلاغ ضد ابنها زاعمة أنه من الإسلاميين ويريد السفر إلى مصر عبر مطار كولونيا وبعد ساعات من الاستجواب صرح متحدث باسم الشرطة الاتحادية لصحيفة بيلد الشعبية (مليون نسخة يوميا) بأنها لم تعثر على دليل واحد على تطرف الابن الذى كان يريد قضاء إجازة فى الغردقة لكن الأم خشيت عليه مما تقرأ عن مصر.

لكن.. اللافت للنظر أن الصحف الألمانية لم تنشر خبر القبض على الإخوانى الهارب فى مطار برلين شونفيلد قبل سفره إلى تركيا بناء على مذكرة اعتقال من الإنتربول الدولى المدرج على قوائم الهاربين فيه بطلب من مصر بعد مشاركته العنيفة فى أحداث فض اعتصام ميدان رابعة.

على أن السلطات الألمانية سرعان ما أفرجت عنه كما فعلت من قبل مع أحمد منصور (المذيع الإخوانى فى الجزيرة) وهو ما يوحى بوجود ضغوط سياسية (من قطر وتركيا) يمكن للحكومة الألمانية الاستجابة إليها ولو تجاوزت قواعد الشرطة الدولية.

ويفسر كثير من المحللين مثل هذه التصرفات بضعف السياسة الخارجية مما جعل فولكر بيريس رئيس مركز الأبحاث السياسية فى صحيفة زود دويتشه (الأكثر تأثيرا فى الرأى العام) يطالب حكومته بمزيد من الاهتمام بالسياسة الخارجية بما يتناسب مع ثقل ألمانيا التى ستواجه تحديات دولية تؤثر بشكل متزايد فى شئونها الداخلية فالحروب ستجلب المزيد من اللاجئين إلى ألمانيا كما أن الصين بقوتها الاقتصادية تصدر نموذجا استبداديا للدولة يجب مواجهته خاصة أن الولايات المتحدة لم تعد شريكا يمكن الوثوق فيه.

والحقيقة أن ألمانيا تخشى اللعب فى السياسة الخارجية بمفردها فلو ابتعدت عن الولايات المتحدة فإنها تلجأ إلى فرنسا.

وغالبا ما يترك حزب الأغلبية (الحزب المسيحى الديمقراطى) منصب وزير الخارجية إلى حزب أقل شعبية يشاركه فى الحكومة الائتلافية بما يوحى بعدم الاهتمام بهذا المنصب مقارنة بالمناصب الوزارية الأخرى مثل المالية والداخلية.

فى عام 2004 فاجأ وزير الخارجية ورئيس الحزب الديمقراطى الحر جيدو فيستر فيله الجميع بأنه مثلى الجنس وقدم صديقه ميشيل مورنز باعتباره شريك حياته خلال احتفال أقامته المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل بمناسبة عيد ميلادها الخمسين وتوج اعترافه بتسجيل علاقتهما رسميا فى سبتمبر 2010 واحتفل بذلك علنا.

وكانت ألمانيا قد سمحت لزواج المثليين فى أول أغسطس 2001 وأيدت المحكمة الدستورية القرار وسمحت بكامل الحقوق لهم مما أجبر الائتلاف الحكومى على تغيير القانون.. لكن.. الجدل لا يزال ساريا حول حق المثليين فى تبنى الأطفال.. فهناك من يرى فيه خطرا على الأطفال الذين سيتأثرون بما يجرى حولهم.. كما أن تلك الإباحة ستزيد من النقص فى السكان الذى تعانى منه البلاد والذى يهدد بتوقف المصانع خلال أعوام قليلة بسبب ندرة الأيدى العاملة.

وتمتلك العمالة الألمانية قدرات متميزة فى استيعاب التكنولوجيا مما يجعلها مثالا جيدا يمكنه وضع برامج متطورة لتدريب العمالة المصرية وتأهيلها.

ويبدأ الاهتمام بالعمالة الفنية من المدارس الأولية، حيث توجه التلاميذ غير المناسبين للتعليم العام نحو التعليم الصناعى وتقنع أسرهم بأن ذلك أفضل لهم خاصة أن دخل العامل الماهر قد يزيد عن دخل الموظف فى بنك وربما دخل الوزير فى الحكومة وهذا صحيح تماما.

وحسب ما سمعت من فراو دريكسلر مسئولة الثقافة والتعليم والإعلام فى وزارة الخارجية فإن طلاب المدارس الفنية يدرسون فيها ثلاثة أيام فقط ويتدربون فى المصانع ثلاثة أيام مقابل أجر يتزايد سنة بعد أخرى لأنهم يشاركون فى إنتاجها.

وأضافت: التأهيل المهنى أن تعرف ما تحتاج من وظائف وهو أمر يختلف من دولة إلى دولة.

والدليل على ما تقول مركز التدريب الذى أنشأته شركة سيمنز فى العين السخنة بعد أن فازت بعقد بناء أربع محطات للكهرباء فى مصر.. لكن.. مصر فى حاجة إلى عشرات مثل هذا المركز فى تخصصات فنية متنوعة.. ولكن.. الأهم احترام قيمة التعليم الفنى اجتماعيا.

وفى مصر 7 مدارس ألمانية بينما العدد فى الولايات المتحدة لا يزيد على 5 مدارس.. وتطلب مصر من ألمانيا بناء 100 مدرسة.. لكن.. فراو دريكسلر تقول: إن أهم من بناء المدارس مناهج وأساليب التعليم غير تأهيل المدرسين .

أما دكتور المان وزير التعليم سابقا وعضو جمعية الصداقة المصرية الألمانية فى البرلمان فأكدت لى أن بلادها تدعم تطوير التعليم فى مصر.. وهى نفسها شهدت افتتاح الجامعة الألمانية فى القاهرة.. وهى تؤمن بأن مصر أهم عناصر الاستقرار فى المنطقة.. لكنها.. تتحفظ على مشاكل الحريات فيها.. كما تتحفظ على قلة عدد العلماء الألمان الذين يسافرون إلى مصر قياسا على عدد العلماء المصريين الذين يأتون إلى ألمانيا خاصة أنهم يخشون السفر إلى تركيا بعد أن أصيب أردوغان بجنون الفاشية.

وتبادل العلماء بيننا وبينهم يشمل الآثار والبيئة والطاقة والزراعة والتكنولوجيا والألواح الشمسية.

ومثلها مثل غيرها من المسئولين الألمان الذين التقيت بهم فى وزارات الخارجية والاقتصاد والطاقة ومراكز الأبحاث والصحف وقنوات التليفزيون.. يحبون مصر أكثر مما نتصور.. لكن.. هذا الحب لا يمنع النظر إليها بنظرة نقدية.. فالحب أيضا يحتمل الخلاف.