د. أحمد يونس يكتب : إلى متى ستظل مـــصر بدون جهــاز مناعة؟

مقالات الرأي



هل اخترعوا موبايل على شكل دبــلـة خطوبة، أو زرار جاكتة أو خـاتم سوليتير؟ لو حدث هذا غداً أو خلال أسبوعين أو ثلاثة، فلن يستغرب.

أحد الذين يخترعون يزدادون علماً، بينما الذين يكتفون بصب اللعنات على التقدم، يزدادون تدلهاً فى عــشق الجهل. لكن تلك حـكاية أخرى يطول شرحها.

ما يعنينى هنا هو مدى صعوبة التفاهم مع البعض. فلنفترض، على سبيل الجدل ليس إلا، أن شخصاً أشار فى مكــان عـــام إلى الحذاء الذى ترتديه إحدى السيدات قائلاً لك بوجــه جاد: ناولنى من فـضلك هذه الولاعة. بلاش كده! فلنفترض أنه انتزع قـلمك بينما أنت منهـمك فى الكتابة، ليضعه بين شفتيه متمتماً بلهجة المعتذر: لا مؤاخذة. نسـيت سجائرى اليوم فى البيت. ما الذى يمكن أن يخطر على بـالك فى هذه اللحظة؟ إما أنه لا يتمتع بكامل قواه العقلية، أو أنه ينتمى إلى هذا الصنف من الرجال الذين يحققون أرقاماً قياسية فى معدلات الغــتاتة عندما يستظرفون، أو أنه يدعى الجنون ليفلت من عقــوبة ما. الاحتمال البعـيد الذى يصعب أن يتطرق إلى ذهـنك هو أنه يطلق على الأشياء أسماءً أخرى غـير تلك التى تستخدمها أنت. ومع ذلك، فإن شيئاً قريباً من هذا يحدث عندما يتناطح ـ على الملأ ـ حضـرات السادة المنظرين. الوضع يبدو كوميدياً مع غياب اللغة المشتركة.

العميل السرى، بهيئته التقليدية تلك المتعــارف عليها سينمائياً، أخذ على ما يبدو ينقرض. لا أحد لديه الآن من الوقت ما يكفى لكتابة الرسائل بالشفرة. كل العــملاء أصبحوا علنيين. نراهم أينما ذهبنا يشغلون المواقع المفصلية الحساسة فى المجتمع. يطلون علينا من الصفحات الأولى بالجرائد أو شاشات التليفزيون. الوجوه الملمعة بسائل تنظيف زجاج النوافذ، بات أصحابها نجوماً، يوزعون علينا هذه الابتسامة التى أبداً ما فهمنا، رغم طول السنين، هل هى مشـفقة أم متشفية.

بالطبع أنا لا أتحدث هنا عن الجواسيس الذين يفشون أسرار الدولة، عسكـرية كانت أو متعـلقة على أى نحــو بالأمن القومى أو مصالح الوطن العليا، على طريقة مرسى، أو كل مـن كان ضالعاً معه فى جريمة الخيانة العظمى. الإخوان هم الإخوان. لا فائدة.

الجواسيس التقليديون، ما لم يكونوا فى مواقع حساسة، فلا حاجة لهـم فى الوقت الحاضر. أعدادهم انخفضت بشــكل ملحوظ، نظراً لقيام الأقمار الصناعية بأغلب المهمات التى كانت توكل إليهم، فضلاً عن أن الأجور شهدت قفزات فلكية بسبب غلاء المعيشة. أبو مــائـة دولار فــى الخمسينيات أو الستينيات، لابد أن يشترط الآن- نظـير الخيانة لبلاده- الحصـول على مبالغ فلكية تتمشى مع آليات السوق.

العملاء هم مـن أقصد. أولئك الذين يخربون جهـاز المناعة فى جسد الوطن. وعلى ما أعتقد أنا شخصياً، فإن مــصر، كــأى بــلد آخر، يحتاج إلى جهاز مناعــة ذكــى وشفاف. ذكــى حتى لا يرفـض زرع الكبد الذى بدونه- يغدو الموت محقـقاً- وشفــاف لكى لا يغض البصر عن جيوش الفيروسات التى لا يؤدى تسللها إلا إلى أن يجنى البعض الثروات الطائلة، فى حين يظل البلد- من طول ما عانىـ جلداً على عظم. العملاء هم مـن يريدون من جهاز المناعة فى جسد الوطن أن يطرد كـل ما له علاقةٌ بالديمقراطية وحــقوق الإنســان والعــدالة الاجــتماعية وحــريـة الفكــر والتعــبير والاعتقاد، وأن يسمح فــى المقابل بمرور أدوات التعذيب الحديثة والمبيدات المســرطنة والعــودة إلى عصور الظلام وتكنولوجيا الفساد وتزويــر الانتخابات، بالإضافة إلى الإهمال المقصود الذى دمر التعليم والثقــافة والاقتصـاد والصـحـة والأخلاق والدماغ عموماً وكــل شىء. إلى درجة أن الناس أصبحوا يعيشون الحياة - كالجالسين فــى صالات الترانزيت- بالمطارات لا يفعلون أكثر من انتظار الموت.