عادل حمودة يكتب : لمصر.. لا للأقباط !

مقالات الرأي



يملك إيفنو آزيف وحده تفسير ما حدث بين الجيش والأقباط فى فتنة يوم الأحد الدامى أمام ماسبيرو. هو ابن خياط روسى يهودى فقير.. ولد فى مقاطعة جرودنيسكى عام 1869.. عمل موظفا.. ومدرسا.. وصحفيا.. انتمى للتنظيمات الثورية المعادية لقيصر الكرملين قبل أن يعرض خدماته على الشرطة السرية.

كان هذا الشاب الصامت.. النحيف.. الخجول.. أول عميل مزدوج فى التاريخ.. سرب معلومات للتنظيمات الثورية أدت إلى اغتيال عدد من المسئولين الحكوميين الكبار.. منهم ثلاثة وزراء للداخلية.. وسرب معلومات للشرطة السرية عن الخلايا الثورية أدت إلى القبض على أعضائها.. وفى كل الأحوال لم يشك فيه أحد.. لم تحم حوله شبهة ولو عابرة.

كان ثوريا تحت الأرض.. مخبرا فوقها.. وتخلص من خصومه فى السلطة وفى الثورة.. ودائما كان يجهز من سيلبس التهمة قبل أن يرتكب جريمته.

وربما كان العميل المزدوج الوحيد الذى لم يكشف.. أو يقبض عليه.. فقد اختفى من روسيا.. وتنقل بين إيطاليا واليونان ومصر.. وأخيرا استقر فى ألمانيا.. وقبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى انتهت حياته.

لكن.. بقى أسلوبه فى الإيقاع بين القوى المختلفة نموذجا يجرى تدريسه والتدريب عليه فى أجهزة المخابرات المختلفة.. كيف تورط غيرك فى جريمة برىء منها؟.. كيف تختاره بعناية كى يعاقب عليها؟.. كيف تثير فتنة دون أن ينتبه أحد إليك؟

وقد استخدم أحفاده فى الموساد طريقته الجهنمية فى قضية لافون.. حين قامت مجموعة من شباب اليهود فى مصر بتفجير منشآت بريطانية وأمريكية عام 1954 كى توقع إسرائيل بين ثورة يوليو والحكومات الغربية فتحترق الجسور الممدودة بينهما.. وتنقلب المودة إلى عداء.. ولولا أن كشفت الخلية الإرهابية لكان جمال عبدالناصر هو المتهم الجاهز الذى سعوا لتوريطه فيما حدث.

ولا استبعد أن يكون إيفنو آزيف من نوعية وجنسية وشخصية أخرى لعب الدور نفسه فى توريط الجيش فى الأزمة الصعبة الأخيرة مع الأقباط.. فالأقباط كانوا مسالمين.. والجيش ليس من أساليبه استخدام الرصاص ضد مواطنين.. فمن هو «العميل المزدوج» الذى لعب على الحبلين وأوقع بين الجانبين وخرج كالشعرة من العجين؟.. هذا هو السؤال الغائب الذى لم يطرحه أحد.. وهو سؤال فرض نفسه من قبل فى أحداث سبقت وتجاهلنا الإجابة عنها.

إن التوصل للمحرض والجانى الخفى سيساهم ولو قليلا فى شفاء جراح الروح التى أدمت قلوب الأقباط وأحزنتها.. دون أن ننسى أن مسئولية الجيش أكبر.. مسئوليته بنفس حجمه.. بنفس ثقله.. بنفس قوته.. بنفس دوره فى الحماية والرعاية.

والمؤكد أن المستهدف فيما جرى هو الجيش وليس الاقباط.. فلو كانت المظاهرة لتيار آخر لحدثت نفس الوقيعة.. وتورط الجيش فيما فعل.. فالهدف أن يخرج عن شعوره.. ويضرب.. ويدهس.. ويعتقل.. ويحاكم.. ويحاسب.. ويفقد تعاطفه مع الثورة.. ويتجرد من حمايته لها.. ويعود النظام السابق.. وتنتصر الثورة المضادة.

لقد سبق أن حرقت مركبات عسكرية كى يثأر الجيش.. وسبق أن تعرض جنود وضباط لاستفزاز بطريقة يصعب احتمالها كى يردوا.. وتقع الواقعة.. وتشتعل الفتنة.. وينسحب الجيش بعيدا.. تاركا البلاد بلا أمن.. لقوى الفوضى التى تستغل فراغ السلطة فى القتل والحرق والنهب والشنق والترويع والتمييز والتقسيم لتصبح مصر صورة أخرى بالكربون من الصومال أو العراق أو أفغانستان وهى دول تفتت ولن تتوحد.. ذهبت ولن تعود.. ركعت ولن تقوم.. ماتت ولن تبعث.

كنا نسمع بطريقة عابرة عن دولة قبطية فى الصعيد ودولة نوبية فى الجنوب ودولة فلسطينية فى شمال سيناء فأصبحنا نسمع عنها كل يوم.. تقريبا.. ولو كانت قطر مولت سلفيين وأمريكا مولت ليبراليين فإن إيران تطلب من عملائها التصرف بحرية.. فقد تحولت القاهرة إلى وكر للجواسيس.

والجاسوس لم يعد يبحث عن أسرار وإنما أصبح يثير فتناً ويحرض على فوضى ويلبس ثوب الثورة.. وربما ساعد فى عملية نارية.. مثل نسف محطة تصدير الغاز الذى سندفع ثمن توقفه ثمانية مليارات دولار فى قضية تحكيم دولى سترفع ضدنا.. بجانب تسعة مليارات فى قضايا أخرى.. لنفقد ثلاثة أرباع ما تبقى من الاحتياطى النقدى.

وليس أمامنا لإنقاذ بلادنا من الطوفان سوى أن نأخذ الأقباط فى أحضاننا.. نمنحهم الدفء.. ونشعرهم بالسكينة.. ونعيد إليهم الثقة فينا.. وهى تصرفات مهما بدت فى صالحهم فهى فى الواقع تخدم مصر أكثر منهم.. فضربهم جريمة لن يرضى عنها العالم وسوف يعزلنا عقابا عليها.. وربما وجدها مبررا لفرض حماية دولية علينا.

تخيلوا أنفسكم فى دولة محاصرة لا تكلم أحدا ولا يكلمها أحد.. لا تذهب إلى أحدا ولا يأتى إليها أحد.. لا تشترى من أحد ولا تبيع لأحد.. دولة محرومة من كل ما يأتى من الخارج.. وممنوعة عليها السفر إليه.

وقد حدث بعد قداس يوم الأحد الماضى أن خرجت فى وقت واحد مظاهرات غاضبة فى لندن وباريس وجنيف واستكهولم ولوس أنجلوس ونيو جرسى ومونتريال تندد بما جرى للأقباط فى مصر.. عرضت فيديوهات الموت.. وتوابيت القتلى.. وتجاوزات المتعصبين الذين ضربوا شبابا وفتيات يرسمون الصليب أو يعلقونه.. وهى مشاهد شوهت صورتنا بما لم نتوقع.. وكأننا ألقينا على وجوهنا «مية نار».. ولا تزال آثارها المالية والسياسية لم تأت بعد.

استمرار المعونة العسكرية وتجديد الأسلحة فى خطر.. القروض الميسرة من صندوق النقد الدولى للتخفيف من أزمة السيولة فى خطر.. استيراد القمح من الخارج فى خطر.. إن التجارة سياسة فى كثير من الحالات.

ولو كنا قد تعرضنا لهجوم شرس من متشددين ومتطرفين لموقفنا المساند للأقباط فإننا لن نتراجع عنه.. وهو موقف لمصر لا لغيرها.. فالشريعة الإسلامية تدعونا لمساندة الضعيف حتى يقوى والصغير حتى يكبر والمريض حتى يشفى والمظلوم حتى يسترد حقوقه.. ولو كنا بما قلنا وكتبنا وضعنا على الصورة القبيحة رتوشا لتجميلها، فإن مجانين الفتنة الطائفية أزالوها دون أن يدركوا أنهم يدفعون بالبلاد إلى هاوية سيكونون بعضا من ضحاياها، فالطوفان عندما يأتى لا يفرق بين مسلم ومسيحى.. بين متعصب ومتسامح.. بين جندى وكاهن.. بين سلفى وشيوعى.. كلنا فى النار


مظاهرات غاضبة فى لندن وباريس وجنيف واستكهولم تندد بما جرى للأقباط فى مصر


! مجلس إنقاذ الأمن القومى


لم نسئ إلى تعبير سياسى مهم فى حياتنا كما أسأنا إلى تعبير«الأمن القومى».. اختفاء رغيف العيش أمن قومي.. حوادث الطرق أمن قومي.. التعليم الصناعى أمن قومي.. زراعة الصحراء أمن قومي.. ولم نترك العلاقة بين الرجل والمرأة فى حالها.. فقد اعتبرنا تدهورها قضية تمس الأمن القومى.

أفرطنا فى استعمال التعبير حتى فقد معناه.. وانحسرت قوته.. وتقلمت أظافره.. وتلاشت معالمه.. ولم يبق أمامه سوى أن يصبح مقطعا فى أغنية للمطرب الثورى شعبان عبد الرحيم.

والمثير للدهشة أن التعبير لم يلحق بالقضايا الحيوية التى تمس بالفعل قلب الأمن القومي.. إسرائيل.. فلسطين.. السودان.. مياه النيل.. والفتنة الطائفية.. مثلا.. فعندما نهتم بالأعراض تضيع الأسباب.

ويقصد بالأمن القومى كل ما يهدد بقاء الدولة وقيمها العليا فى الداخل والخارج.. والتعريف للدكتور عبد المنعم سعيد.. والمفهوم يكاد يتسع لكل شىء.. لذلك اخترعت الولايات المتحدة الأمريكية عام 1949 منصب مستشار الأمن القومى مهمة من يتولاه ترجمة المعانى إلى تحديات مباشرة يجب مواجهتها كى تبقى الدولة وقيمها العليا فى مأمن من المخاطر.

وفى مصر لم يتول هذا المنصب سوى شخص واحد هو السفير محمد حافظ إسماعيل وكان ذلك فى 19 سبتمبر 1971 بقرار مفاجئ من الرئيس أنور السادات، وإن لم يناقش الرجل مع رأس الدولة مفهومه للمنصب ولا صلاحيته.. وإن فهم أن عليه هو ومجلس الأمن القومى عرض أفضل الخيارات المتاحة لمواجهة المشاكل الاستراتيجية على الرئيس كى يتخذ قرارا مناسبا فيها.

كان مجلس الأمن القومى يتكون من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزيرى الحربية والخارجية ومدير المخابرات العامة وبعض الشخصيات التى يثق الرئيس فى حكمتها.

وفى مذكراته التى اختار لها عنوان «أمن مصر القومي» يقول محمد حافظ إسماعيل إنه كان على مستشار الأمن القومى أن يتلقى وينفذ تعليمات الرئيس وأن يعد ويعرض عليه التقارير والملفات والأبحاث ويقدم إليه المشورة.. كما يقوم بالسكرتير التنفيذى لمجلس الأمن القومي.. فيعد لاجتماعاته.. ويسجل مداولاته.. وينفذ قرارات الرئيس المتخذة فى إطاره.

كان مكتب محمد حافظ إسماعيل فى قصر القبة.. واستعان بعدد من المساعدين جاءوا من وزارة الخارجية.. تاركا النظام الإدارى للمجلس للتجربة.. وإن لاحظ بعد فترة أن الرئيس أنور السادات لا يرغب فى أن تكون له اتصالات بالمؤسسة العسكرية.. وقبل أقل من سنة لاحظ الرجل أن مهمة مستشار الأمن القومى حسب تقديره لها قد تراجعت وأصبحت مقصورة على تنظيم تدفق المعلومات إلى الرئيس وتنفيذ قراراته فى الشئون الخارجية.. مثل حمل رسائل الرئيس إلى حكام الدول الأجنبية.. باستثناء الدول العربية.. والقيام بالمباحثات المكملة التى بدأتها القيادة السياسية.

وبعد حرب «أكتوبر» اختار السادات أن يكون وحده السلطة السياسية العليا فى البلاد ومن ثم المسئول عن القرارات الجوهرية.. ولم يكن ذلك يعنى أنه لا يستمع إلى المشورة.. أو أنه لا يسعى إليها.. فقد وجد فى مجلس الأمن القومى ومجلس الوزراء الإطار الذى يناقش فيه قراراته قبيل اتخاذها.. إلا أن أيا من المجلسين لم يكن معنيا بالتصويت لإقرار سياسة ما مستقبلية.. فقد ظل السادات هو فى النهاية صاحب القرار.. سلما أو حربا.. بينما يوفر المجلسان التعرف على نبض الرأى العام والإسهام فى بلورة الخيار الأفضل.. وتنظيم تنفيذه».

باختفاء محمد إسماعيل غانم من الحياة العامة اختفى منصب مستشار الأمن القومى.. ليعود السؤال بعد 28 سنة من توليه تلك المهمة : هل نحن فى حاجة إلى تشكيل وتفعيل مجلس الأمن القومى وتعيين مستشار له؟

عادل حمودة

الفجر : 23 مارس 2009

منذ سنوات وأنا أؤذن فى مالطا لعل أحداً يستجيب ويعيد تشكيل مجلس الأمن القومى.. لكن.. فى ظل نظام كان يدير البلاد بطريقة المصطبة لم يكن ليستوعب الفكرة التى تقوم على الإيمان بالخبرة.. فالمجلس يضم المسئولين عن البرلمان والحكومة والمخابرات بجانب كفاءات تجنب البلاد البلاء قبل وقوعه.. وتجيد تقديم النصيحة مهما كان حجم المصيبة.

لكن.. طوال الثلاثين سنة الماضية لم يفكر أحد فى السلطة العليا للبلاد أن يعيد إحياء مجلس الأمن القومي.. ويخرجه من جديد إلى النور.. خاصة بعد الثورة.. لمساندة المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى تنقصه الخبرة السياسية.. ويفتقد فرز الشخصيات الموهوبة من الشخصيات المنافقة.. وهو ما أوقعه فى كل ما جرى له ولنا.

وبعد نحو تسعة أشهر على تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة لم تعد صورته كما كانت.. وتعرضت رموزه المختلفة لانتقادات حادة.. وصلت إلى حد المطالبة بعودته للثكنات.. وتولى مجلس رئاسى مؤقت إدارة شئون البلاد فى الفترة الانتقالية.. وهو اقتراح يصعب تنفيذه.. فكل القوى ستتصارع للاستيلاء عليه.. والبديل الوحيد أن يتوارى المجلس الأعلى للقوات المسلحة ويتصدر المشهد مجلس الأمن القومى.

إن أول درس علمه لنا الدكتور بطرس غالى الكبير فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية أن السلطة المحنكة هى التى لا تضع نفسها وجها لوجه مع الشعب وأن تجعل بينها وبينه منطقة عازلة (بافر زون) تسمح لها بالمناورة.. ولا تضعها فى «وش» المدفع كما حدث بالفعل.. وليس هناك أفضل من مجلس الأمن القومى كى يكون حائط صد مناسبا.. بجانب قدرته على إدارة الأزمات المتتالية التى لم تتوقف.. ولن تتوقف.

سيرأس المجلس رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة (بصفته قائم بأعمال رئيس الجمهورية) بجانب رئيس الأركان ومدير المخابرات العامة ورئيس الحكومة ووزراء الخارجية والداخلية والمالية وعدد غير محدد من الخبرات المتخصصة فى جميع المجالات.. وهو ما يعوض ضعف الحكومة.. ونقص خبرة الجنرالات الذين أثبتوا أن الطريق إلى جهنم مفروش بالنيات الطيبة.

لكن.. الإيمان بمجلس الأمن القومى يحتاج قبل كل شىء إلى سلطة قائمة تؤمن بالتفكير الجماعى قبل اتخاذ القرار.. سلطة تعطى العيش لخبازه.. قبل أن تشعل الفرن.. وتضع العجين.

ليس الحاكم فى مصر هو المفكر الوحيد.. وليس الموهوب الوحيد.. وليس هو الخبير الوحيد.. لكن.. من يجرؤ على الاعتراف بذلك؟

إن الأمن القومى مهدد بالفعل.. وحان الوقت لفرض مجلس يختص به.. ويجنب من فى الحكم سوء النقد.. ويمزج بين السلطة والخبرة.. ويعرف كيف ينجو بالبلاد من كل ما يتربص بها من مؤامرات ومخاطر.. نشعر بها.. ونتورط فيها.. ولا نعرف كيف نواجهها؟