بوابة الفجر

في الذكرى الـ 115 لمولده .. موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب أيقونة ثقافية مصرية خالدة

محمد عبدالوهاب
محمد عبدالوهاب

في الذكرى الـ 115 لمولده والتي تحل اليوم "الاثنين" يبقى الموسيقار محمد عبد الوهاب أيقونة ثقافية مصرية خالدة ونموذجا مضيئا لمعنى الإبداع.

 

وفيما تفرض أسئلة الحنين ذاتها في ذكرى مرور 115 عاما على مولد "موسيقار الأجيال" الوهاب ابن حي باب الشعرية في قلب القاهرة العتيقة الذي ولد يوم الثالث عشر من مارس عام 1902 وقضي في الرابع من مايو عام 1991 فان فنه مازال يتربع في قلوب الملايين وألحانه وأغانيه ذاتها تتحول إلى "أيقونة للحنين" بينما تميز شأن المبدعين الكبار بتعدد مواهبه الفنية ما بين الغناء والتلحين والتأليف الموسيقي والتمثيل السينمائي.

 

ورغم مرور كل هذه السنوات على مولد "موسيقار الأجيال" و"فنان الشعب" الذي قضى عن عمر يتجاوز الـ 89 عاما يبدو أن هناك مدا في مشاعر الحنين لزمن صاحب "النيل نجاشي" و"مضناك جفاه مرقده" و"ليالي الشرق" و"عندما يأتي المساء" و"دمشق" و"النهر الخالد" و"الجندول" و"كليوباترا" و"الكرنك" حيث اقترن زمنه بنهضة غنائية وموسيقية بل وطفرة ابداعية شملت المسرح والسينما والكتاب فيما تسكن ألحانه وأغانيه الوطنية والقومية الوجدان المصري والعربي مثل :"على باب مصر " و "الوطن الأكبر""اصبح عندي الآن بندقية" و"مصر الحبيبة".

 

والموسيقار محمد عبد الوهاب الذي بدأ حياته الفنية مطربا بفرقة فوزي الجزايرلي في عام 1917 سرعان ما اتجه لصقل موهبته بالدراسة اعتبارا من عام 1920 في معهد الموسيقى العربية او "نادي الموسيقى الشرقي" حينئذ حيث درس العود ليكون عبر رحلته الفنية المديدة احد اهم من شكلوا الوجدان العام والذائقة الفنية للمصريين والعرب على وجه العموم.

 

ففنان الشعب محمد عبد الوهاب انتزع بألحانه وأغانيه أحلى الآهات من أعماق جماهيره التي امتعها سواء بأغانيه او بألحانه لتشدو بها ام كلثوم فضلا عن اسمهان وليلى مراد وعبد الحليم حافظ وفيروز وفايزة احمد ووردة الجزائرية ونجاة الصغيرة وصباح وطلال المداح.

 

وإذا كانت جمهرة النقاد والكتاب تصف أم كلثوم بأنها "مطربة القرن العشرين في مصر والعالم العربي" ، فان كوكب الشرق قدمت عشر اغنيات من ألحان محمد عبد الوهاب في غضون تسع سنوات لتكون بحق لقاءات السحاب وهي :"انت عمري" من كلمات احمد شفيق كامل و"على باب مصر" من كلمات كامل الشناوي و"انت الحب" للشاعر احمد رامي و"امل حياتي" كلمات احمد شفيق كامل و"فكروني" وهي من كلمات عبد الوهاب محمد و"هذه ليلتي" للشاعر جورج جرداق و"اصبح عندي الآن بندقية" للشاعر السوري الراحل نزار قباني و"دارت الأيام" من كلمات مأمون الشناوي و"أغدا القاك" للشاعر السوداني الكبير الهادي آدم و"ليلة حب" وهي اغنية من كلمات احمد شفيق كامل.

 

ولا ريب ان علاقة محمد عبد الوهاب بأحد اهم المبدعين والآباء الثقافيين لمصر الحديثة آلا وهو أمير الشعراء احمد شوقي تبقى امثولة على العلاقة السوية والايجابية بين اجيال المبدعين المصريين ، فيما كان احمد شوقي بمثابة "الأب الروحي" للشاب الصغير محمد عبد الوهاب واسهم اعظم الاسهامات في بناء تكوينه الثقافي ورعاية موهبته ودعمه في كل المحافل ليسهم في الحقيقة في بناء ايقونة فنية وثقافية مصرية خالدة.

 

ولئن كانت ثورة 1919 قد فجرت عبقرية سيد درويش الموسيقية ليضع الأساس للألحان القومية بكلمات معبرة عن هموم المصريين وأمانيهم وتطلعاتهم وبنغمات مصرية أصيلة فان محمد عبد الوهاب مضى ليكمل مسيرة سيد درويش الذي يعد من معلميه الأوائل حتى اختطفته يد المنون مبكرا وهو في شرخ الشباب.

 

فمحمد عبد الوهاب هو الذي أعاد توزيع لحن سيد درويش لنشيد "بلادي..بلادي" بعد نحو نصف قرن من رحيل معلمه عندما تقرر ان يكون هو النشيد الوطني لمصر فيما اكد دوما على أهمية الحفاظ على "السيادة الفنية المصرية" في محيطها الاقليمي ورعاية المبدعين وتيسير سبل الحياة لهم حتى يتسنى تقديم الفن الجيد.

والغناء جزء أصيل في تركيبة الشخصية المصرية كما قال الكاتب والروائي الراحل خيري شلبي معتبرا ان رحلة الموسيقى الغنائية في مصر طوال القرن العشرين كانت في حقيقة الأمر جهودا مضنية وناجحة للتخلص من الطابع التركي الى ان تحررت منه تماما على يد سيد درويش ومن بعده كل من محمد عبد الوهاب ومحمد فوزي.

 

وكان سيد درويش قد أبدى اعجابا كبيرا بصوت الشاب الصغير محمد عبد الوهاب والحقه بفرقته الغنائية لتقوى جسور التواصل بينهما فيما عمل عبد الوهاب أيضا في فرق علي الكسار ونجيب الريحاني وعبد الرحمن رشدي.

 

وفي طرح بعنوان :"الغناء المصري في مائة عام" لاحظ الراحل المبدع خيري شلبي ان وسائل الاتصال الجماهيري التي حظى بها القرن العشرون حينما وفدت الى مصر وجدت في المجتمع المصري بيئة موسيقية كاملة وحافلة بالعناصر الخلاقة.

 

ولئن ذهب خيري شلبي الى ان سيد درويش انتج موسيقى مصرية عربية صرفة تنبع من مزاج مصري خالص فمن الضروري ملاحظة ان الأغنية تكاد تنفرد كفن بامكانية تقديم رسالة كاملة الشكل والمضمون في دقائق معدودة بسلاسة ويسر.

 

وفيما اعتبر خيري شلبي أغنية "ان كنت اسامح وانسى الأسية" للشاعر احمد رامي والتي لحنها محمد القصبجي لأم كلثوم عام 1928 تشكل ثورة في الغناء العربي حيث دشنت القالب المعروف الآن باسم "المونولوج" اي مناجاة النفس للنفس ولم يكن معروفا ايامئذ فان محمد عبد الوهاب تتلمذ في العود على يد محمد القصبجي.

 

وأغاني محمد عبد الوهاب وألحانه التي حظت باقبال منقطع النظير من الجماهير انما كشف انتشارها عن أن ذائقة المصريين عالية وواعية وعاشقة لكل ما هو أصيل ومبدع في الكلمات والألحان والغناء خلافا لأراء ظالمة لهذا الشعب العظيم.

 

أما ذاكرة "الفن السابع" او السينما فتحتفظ بأفلام محمد عبد الوهاب كرائد من رواد التمثيل والغناء على الشاشة الكبيرة منذ فيلم "الوردة البيضاء" عام 1933 مرورا بأفلام "دموع الحب" و"يحيا الحب" و"يوم سعيد" و"ممنوع الحب" و"رصاصة في القلب" و"لست ملاكا" وحتى "غزل البنات" عام 1949.

 

وصاحب أغنية "في الليل لما خلي " حاضر دوما في كثير من الكتابات والطروحات المصرية والعربية واسمه يبعث على نوع من الابحار في ثقافة الحنين او "النوستالجيا وفرحة الجمهور وطقوس الاستماع والتذوق والآهات والانصات في خشوع لابداعات الألحان والكلمات والأداء .

 

واذا كان جيل الانترنت لم يعش زمن محمد عبد الوهاب وانما سمع عنه من الأهل او تعرف عليه عبر وسائل الاعلام ووسائط الميديا فهل يتعامل الأكبر سنا مع ذلك الزمن كما يفعل البعض مع ذكريات السفر اي الاحتفاظ فقط بالأوقات الساحرة ليكون الانطباع العام هو الشعور بمتعة الرحلة بغض النظر عن اى مشاق؟!.

 

ومن ثم يحق أيضا التساؤل : هل كان "زمن عبد الوهاب" خلوا من المشاكل ومنغصات الحياة ام ان للحنين آلياته التي تغير بعض الحقائق في خضم لعبة اعادة صياغة الماضي والاحتفاظ باللحظات الطيبة وحدها؟!.

 

للماضي سحره حتى في الثقافة الغربية وقد تخصص مهرجانات كاملة لابداعات وأعمال في هذا الماضي لكنه يعيد استكشاف اعلام هذا الأدب ويسعى لطرح رؤى جديدة لأسماء مثل ارنست هيمنجواي وسكوت فيتزجيرالد وتي.اس.ايليوت وهنري ميلر بل وشكسبير ذاته كما حدث في العام الماضي في ذكرى مرور أربعة قرون على رحيل الشاعر والكاتب المسرحي الانجليزي الأشهر.

 

وقراءة المشهد الثقافي العربي تشير دون عناء الى ان القرن العشرين يحظى بأهمية خاصة باعتباره قرن المدهشات والمنجزات الكبيرة في العديد من أوجه الحياة الانسانية فيما يبقى محمد عبد الوهاب علامة خالدة من علامات الابداع الفني العربي في القرن العشرين.

 

وكانت السيدة نهلة القدسي زوجة الفنان والمبدع الموسيقي المصري الكبير محمد عبد الوهاب قد كشفت قبل رحيلها في صيف عام 2015 عن مزيد من الأبعاد الثقافية في تكوين موسيقار الأجيال وقالت انه كان يتحدث طويلا مع المفكر الراحل الدكتور مصطفى محمود عن قضايا الحياة والموت والعبادة الصحيحة فيما كان يميل للحديث في قضايا السياسة مع الكاتب الصحفي الراحل موسى صبري.

 

وأكدت الراحلة نهلة القدسي أن محمد عبد الوهاب "المنظم كالساعة" كان يسجل بصوته في سنواته الأخيرة مذكراته وأراءه التي اطلع الكاتب والشاعر فاروق جويدة على بعضها ونوهت بأنه "كان يثق في حس الشاعر الراحل كامل الشناوي ويستظرفه" كما سعى للتعرف على المفكر الدكتور لويس عوض واقترب منه.

 

وفيما تطرق المؤرخ والناقد البريطاني الراحل اريك هوبسباوم في كتابه الصادر بالانجليزية بعنوان :"أزمنة متشظية: الثقافة والمجتمع في القرن العشرين الى المشهد الابداعي الموسيقي في القرن الماضي من منظور الجماهير أو "رجل الشارع" فان الموسيقار محمد عبد الوهاب نجح في الفوز باعجاب النخب والجماهير العريضة معا بقدر ما نجح في صياغة معادلة ابداعية في الموسيقى العربية تستوعب الايقاعات الغربية وتهضمها في قالب ومضمون شرقي.

 

فعبد الوهاب هو صاحب مقولة :"التراث هو الأصل والمعاصرة هي الواقع ومن اجل ان نقدم فنا كاملا لا يمكننا ان نتخلص من اصلنا ولا يمكن ايضا ان نتجاهل معاصرتنا للواقع".

 

ولا جدال ان محمد عبد الوهاب من اشهر نجوم الموسيقى الشرقية والغناء العربي على المستوى العالمي وخاصة في اوروبا وهو ابن القاهرة الشعبية ولم يكن يوما ما على علاقة تضاد مع المدينة تصل لحد الكراهية او ادانة القاهرة باختلاطها يوم كانت العاصمة المصرية فى بدايات القرن الماضى تفتح ذراعيها لفنانين وفنانات اجانب يتركون بصماتهم على الذوق المحلى المصرى.

 

لقد جاء النمو الوجداني لمحمد عبد الوهاب متسقا مع المدينة الكبيرة وفى سياق ابعد ما يكون عن الصراع معها خلافا لحالة كوكب الشرق ام كلثوم التي جاءت من الريف للمدينة وفى بدايات غربتها الطويلة بالقاهرة تعرضت لما يتعرض له الريفيون البسطاء المهاجرون الى المدن على ايدى التجار والسماسرة والوسطاء فكان وكلاء الحفلات الغنائية يسخرون منها ومن ابيها ويبخسونهما حقهما.

 

وحين اشترت قطعة ارضها الأولى لم تستطع ان تتملكها لأن العقد كان مغشوشا فدفعت المال ولم تحصل على ملكية فى مقابله لكنها امتلكت قلوب المصريين والعرب ككل بعد ذلك وباتت رمزا من رموز العلاقة الوثيقة بين الفن والسلطة بقدر ماانتصرت على "ثقافة الكباريه" التى سادت فى الفن لحظة مجيئها من الريف للقاهرة.

 

والروح الوطنية المتوهجة جمعت مابين عبد الوهاب و أم كلثوم التي اسهمت التبرع للمجهود الحربى بعد حرب الخامس من يونيو1967 وقررت ان تجوب البلاد كايزيس فى محاولة للبعث واعادة الروح فيما سطعت ثقافة رفض الهزيمة في العديد من ابداعات وكتابات المثقفين المصريين في تلك الأيام العصيبة.

وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب هو تغنى بكلمات قصيدة للشاعر والسياسي الأردني عبد المنعم الرفاعي في رثاء فارس الشهداء عبد المنعم رياض الذي استشهد يوم التاسع من مارس عام 1969 :"دخل الجنة موفور السنا...وحنا العرش عليه ورنا".

 

ومامن شك فى ان نمو ظاهرة محمد عبد الوهاب سار فى موازاة تطورات موضوعية لم يكن بد من الخضوع لها والافادة منها بقدر ماكان فنان الشعب معبرا عن مصر وامتدادا لدورها العربى ليكون صاحب نشيد الحرية و"كل اخ عربي" و رائد الأغنية الجماعية "الوطن الأكبر" من اهم الأصوات الابداعية التي جمعت قلوب العرب ووحدت كلمتهم .

 

واذا كانت اجيال من المصريين والعرب ككل مشدودة بالحنين لمحمد عبد الوهاب وعصره فان اريك هوبسباوم قد خلص الى ان مستقبل الثقافة بما فيه الفن في ظل هيمنة آليات السوق مظلم ويبعث على التشاؤم بما يبرر التساؤل :"هل تفسر هذه الرؤية عدم ظهور فنانين كبار وعدم تكرار مطرب وموسيقار في موهبة وقبول محمد عبد الوهاب مثلا لدى الجماهير ناهيك عن ام كلثوم في زمن العولمة"؟.

 

على اي حال بقدر مايعبر الحنين عن لوعة الأشواق وفرقة الأحباب على ركب الرحيل فانه يقوم بدور فاعل حقا في أنسنة الزمان والمكان او "الصورة المرغوب فيها للزمان والمكان في الماضي"..انه التلاعب الايجابي بالحقائق احيانا من اجل حفظ التوازن الانساني ..فالحنين بآلياته يعني حماية صورة مرغوبة..حماية الانسانية الملهمة التي تتجاوز حدود الحواس العادية وتطور بالحنين حاسة استثنائية قادرة على الوصول للأحباب مهما ابتعدوا في المكان والزمان.

 

في الذكرى ال115 لمولده تحية لفنان الشعب وابن شعب مصر العظيم الذي اعتاد الغناء فرحا وحزنا والشعر هجاء ومدحا وسيظل الفن مكونا أساسيا في هويته وحياته ..تحية لأيقونة الزمن المصري الجميل والرمز الخالد لعصر من الجمال والبهجة الراقية والقيم النبيلة .