نتائج الانتخابات التركية .. دلائل ومؤشرات

الفجر الفني


اسم الكاتب : يحيي البوليني

حملت النتائج الانتخابية الأخيرة في تركيا الكثير من الدلالات والمؤشرات وخاصة بعد النسبة العالية لم يكن يدور في خلد أحد أن يحصل عليها حزب ذو مرجعية إسلامية , ذلك الحزب الذي يحكم تركيا للمرة الثالثة على التوالي في إنجاز لم يسبقه إليه حزب تركي آخر .

ويعتبر المراقبون أن نجاح حزب العدالة والتنمية الذي يترأسه رئيس الوزراء الحالي رجب طيب أردوغان في الانتخابات لفترة الحكم الثالثة يعد إنجازاً كبيراً مقارنة بأخر انتخابات أجريت عام ،2007 , فقد ارتفعت شعبية وأسهم الحزب في معركة انتخابية حامية ونظيفة بكل المقاييس شارك فيها 84.8٪ من الناخبين , والتي جعلت الكثير من السياسيين الأوروبيين ومنهم جاك سترو وزير الخارجية البريطاني الأسبق يتساءلون هل لا يزال هناك من يدعي أن الإسلام والديمقراطية لا يلتقيان؟!! , وكما يعبر البروفيسور رمضان غوزن الأستاذ في قسم العلاقات الدولية بجامعة عزت بايسال أن الانتخابات التركية أظهرت إمكانية الانسجام بين الإسلام والديمقراطية

فلأول مرة في تاريخ تركيا الحديث يستطع حزب واحد الفوز في ثلاثة انتخابات نيابية متتالية وأن ترتفع نسبته في كل مرة , فبينما كانت نسبته 34% في انتخابات عام 2002 ارتفعت إلى 47% في انتخابات عام 2007 وإلى نحو 50% في انتخابات عام 2011 , في تطور أذهل معظم المراقبين لأن هذه النسبة تساوي أكثر من ضعف نسبة أصوات الحزب العلماني الذي كان مهيمنا على الساحة الفكرية والسياسية التركية حزب الشعب الجمهوري , وأيضا تقتسم نسبة كل أصوات الناخبين الأتراك التي حصل عليها كل الأحزاب الأخرى مجتمعة .

فالشعب التركي - كما يعبر عنه مضطرا نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري عثمان كوروتورك وذلك بعد ظهور نتيجة الانتخابات بأن 99% منه مسلمون وأنه مخلص في إسلامه وأن عدد المساجد في تركيا يفوق عدد المساجد في أي دولة أخرى - لا يُتعجب منه أن يطرح العلمانية جانبا وأن يطيح بها في ضربة قاسية وذلك بعد العقود الطويلة من محاولة تغريبه عن دينه وعن جذوره الإسلامية .

وكان لهذه النتيجة مجموعة من الدلالات والمؤشرات التي يحسن أن يُنظر إلى تلك النتائج في ضوئها

- نتائج الانتخابات تعني أنه بعد تلك العقود الطويلة من سيطرة العلمانيين الأتاتوركيين على تركيا الإسلامية وبعد المحاولات المضنية المستمرة لتغريب تركيا ومحاولة صبغها بالصبغة الأوروبية العلمانية , إلا أن النتائج أظهرت أن واحدا من كل اثنين يريدون الإسلام وخاصة من الأجيال التي لم تر الخلافة التركية والتي جرت محاولات اجتثاثها من هويتها الإسلامية .

- وأظهرت النتائج فيما يحمل ما يشبه اللطمة القاسية الموجعة للحزب الثاني وهو الأقوى وصاحب التاريخ العلماني الطويل وهو حزب الشعب التركي الذي تراجع تأييده أيضا إلى ما يقارب 25% من أصوات الناخبين , أي أن النصف الباقي من الشعب الذي لم يؤيد حزب العدالة لا يقبل بحزب الشعب ولا بعلمانيته بديلا عن الطرح الإسلامي .

- وأظهرت النتائج أن العلمانية ليست فكرا أصيلا له جذور ثابتة يُستند إليها , بل لابد كي تستمر ولا تنهار من داخلها أن تكون مدعومة بقوة خارجية مثل قوة الجيش الذي كان يتدخل دوما بالانقلابات العسكرية المتتالية لفرضها على الشعوب , وما إن رفع يده عنها في تركيا ولم يستطع التدخل بنفس الطريقة الثابتة المستمرة لحمايتها انكشفت عورتها ولم تستطع مواجهة الفكر الذي يستند في مجمله إلى الإسلام حتى لو لم يكن طرحا كاملا للفكرة الإسلامية .

- وجاء من نتائج الانتخابات أنها تمكن اردوغان من تعديل الدستور إذا حدث تحالف بين حزب العدالة مع عدد قليل من النواب الآخرين مما يمهد لوجود دستور يستند في معظمه إلى المبادئ الإسلامية , وأن يراعي فيه كون تركيا إسلامية التاريخ , وذات أغلبية سكانية مسلمة , وتملك أغلبية تأييد للطرح الإسلامي أظهرتها الانتخابات , مما يشكل ضربة أخرى متوقعة ربما تكون أكثر إيلاما للعلمانية في تركيا وربما يمتد أثرها إلى معظم المنتسبين إليها في عالمنا العربي والإسلامي .

- أظهرت النتائج أن تلاحم القادة بشعوبهم هو السبيل الأقرب للوصول لحياة سليمة وللرقي المادي والمعنوي للمواطنين وللحيلولة دون وصول المجتمعات لنقطة الانفجار , فعندما سئل الرئيس عبد الله جول من عدم خشيته من امتداد الثورات العربية إلى تركيا أجاب مبتسما هناك مساحة كبيرة من الديموقراطية وحرية التعبير , هل تتوقع مثلا أن ينزل شعب ينعم بالديمقراطية ليطالب بالديكتاتورية ؟ , وأضاف حتى ولو نزل الناس إلى الشارع وطالبوا بتغيير النظام فان التغيير يمكن أن يتم من خلال صناديق الاقتراع

- أظهرت نتيجة الانتخابات أن العالم كله يسير وفق طريقة براجماتية لا يحترم فيها إلا الأقوياء الملتحمين مع شعوبهم , فقد ذكرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أن بنيامين نتنياهو أرسل رسالة قبل بضعة أيام لرئيس الحكومة التركية , هنأه فيها بفوز حزبه في الانتخابات، وأبدى رغبته في حل الأزمة في العلاقات بين الدولتين التي نجمت عن العدوان الإسرائيلي الدموي على سفينة «مرمرة» في مايو العام الماضي ، التي كانت ضمن «أسطول الحرية 1»، والذي أدى إلى استشهاد تسعة أتراك , ونقلت صحيفة «زمان» التركية على موقعها الالكتروني مقاطع من رسالة نتنياهو لأردوغان وجاء فيها قول نتنياهو إن « حكومتي ستكون سعيدة للعمل مع الحكومة التركية الجديدة لإيجاد حل لكل القضايا موضع الخلاف بين دولتينا

- أظهرت نتائج الانتخابات مدى تأثر الشعوب بمن يحرص على مصالحها الاقتصادية ومدى ارتباطها بمن يعمل على إيجاد الحلول لمشكلاتها , في وقت ثارت شعوب كثيرة وحاكمت وطاردت وأبعدت أنظمة حكم عتيدة بمسئوليها الفاسدين الذي استغلوا مقدرات الأوطان لخدمة مصالحهم الشخصية , وأظهرت أيضا مدى التغير الملموس الذي شعر به المواطن التركي في الفترة الذي تسلم فيها الحكم من يتوجهون إلى الشعب بمرجعيتهم الإسلامية , فحينما وصل حزب العدالة والتنمية للحكم العام 2002 بعد سنة واحدة فقط من وقوع أحد أكبر الأزمات المالية التي ضربت تركيا العام 2001 , فإذا بهم خلال اقل من عشر سنوات يتضاعف إجمالي الدخل القومي مرتين ، كما استطاعت تركيا أن تخرج من الأزمة المالية العالمية عام 2008 دون أية أضرار تذكر , بل وأصبح النمو الاقتصادي في تركيا يعادل نفس معدل النمو في الصين والهند .

- أظهرت الانتخابات أعلى نسب المشاركة الايجابية من الشعب التركي حيث وصلت إلى 80% من الناخبين , وذلك في الوقت الذي تم رفع قانون الإجبار على المشاركة في الانتخابات، ورُفعت العقوبة على عدم المشاركة التي كان معمولا بهما في الفترات التي كانت تحكمهم العلمانية , أي أن هذه النسبة الحالية هي الأدق والأصوب لتوجهات الشعوب حين تترك لها مساحة الحرية وحين تستطيع أن ترى نموذجا يقترب من النموذج الإسلامي .

وأخيرا .. على الرغم من أن تجربة اردوغان لا تعتبر هي النموذج الفعلي والكامل والحقيقي لتطبيق الفكرة الإسلامية - لأن الكثير من العلماء والمحللين السياسيين الإسلاميين يختلفون معه في عدد غير قليل من النقاط - , إلا أنه وجد هذا التجاوب من الشعب التركي الذي كان أقصى أمل له منذ تسع سنوات فقط أن تقبله أوروبا في تحالفها , وأصبح اليوم يختار الإسلام طواعية ورغبة بعد قليل من تجلية الغبار عن المشروع الإسلامي , فكيف لو رأت الشعوب نموذجا متكاملا حقيقيا ومنضبطا للفكرة الإسلامية ؟ !!!