عمر طاهر يكتب: صنايعية مصر «5» .. ناعوم شبيب

الفجر الفني

عمر طاهر يكتب: صنايعية
عمر طاهر يكتب: صنايعية مصر «5» .. ناعوم شبيب


(1)

تقول الأسطورة إن جمال عبد الناصر بعد تولى الرئاسة قرر مساندة المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسى، فأرسلت له أمريكا 6 ملايين جنيه عربون محبة لقائد مصر الجديدة، لكن البنكنوت كان يحمل رسالة ضمنية واضحة تقول «هذه رشوة مستترة وخليك فى حالك».

تقول الأسطورة إن ناصر قبل المبلغ وقرر أن يستغله فى تقديم درس جديد من دروس الكرامة للمصريين وبالمرة

«يعلّم على الأمريكان».

قال ناصر: هاتوا لى ناعوم شبيب.

(2)

كان ناعوم شبيب وقتها حديث مصر كمهندس ومقاول، فقبل عام1950 لم يكن فى العاصمة المصرية مبان تعلو على اثنى عشر طابقا، ومع ذلك كانت عند نعوم شبيب الجرأة الكافية لإنشاء أول ناطحة سحاب، عمارة سكنية من 22 طابقا.

كانت بناية ناعوم مثار هجوم البعض مثل رجال الدفاع المدنى الذين صرحوا فى الصحف بأنهم لا يمتلكون معدات تسمح لهم بإطفاء أى حريق يشب فى هذه الأدورا العليا، وتبرع بعض المعماريين المشهورين بتحذير سكان هذه العمارة من خطر الزلازل، وصرح مدير عام مرفق المياه بأن المرفق لا يمتلك أجهزة تسمح بوصول الماء إلى هذه الأدوار العليا، كان الهجوم شبه منظم إلا أن ذلك لم يمنع إقبال الناس على السكن فيها.

كان ناعوم مهندسا بارعا بالفعل، يقوم فكره على أن البناء يتجاوز مسألة الجدران إلى مسارات الطاقة فى السكن والشعور بالراحة، وأن المبنى يعبر عن ثقافة شعب، وأن الجمال فى البناء ينعكس على شعور قاطنيه وشعور كل من يمر به.

لخص ناعوم فلسفته كلها يوم وقف أمام طلبة الهندسة قائلا «التشييد هو عمل الإنسان لصالح أخيه الإنسان»، هكذا كان يرى مسألة البناء كمهندس ومقاول.. خدمة البشرية.

كان هناك من ينتظر انهيار ناطحة السحاب، فقرر ناعوم أن يرد عليهم بالبدء فى بناء واحدة جديدة 33 طابقا، ولكن قبل أن يبدأ اتصلوا به «الريس عايزك».

(3)

كانت فكرة ناصر استخدام فلوس الأمريكان فى بناء برج يرد به على صفاقة الرشوة، صفعة على القفا للذكرى.

تقول الأسطورة إن ناعوم شبيب عرض على ناصر تشييد البرج فى أرض الجزيرة، وتقول الأسطورة إنه تم تفسير اختيار الموقع بأنه يقع مقابل السفارة الأمريكية على الجهة الأخرى من النيل، وهكذا كلما أطل السفير من مكتبه يرى البرج فتصله الرسالة.

فى ما بعد، ومع بداية المشروع وضع المصريون لمستهم على الرسالة، فقبل أن يتفقوا على تسميته «برج القاهرة» أطلقوا عليه اسمين، واحدا حماسيا «شوكة عبد الناصر»، والآخر ساخرا «وقف روزفلت»، وهكذا اكتملت الرسالة قبل أن يكتمل البناء.

قبل أن يبدأ البناء سأله ناصر كم سيبلغ ارتفاع البرج، فقال شبيب: أعلى من الهرم الأكبر، ابتسم ناصر وربت على كتف شبيب معجبا بخفة دمه.

كانت خطة ناعوم شبيب أن يكون المبنى بسيطا تماما، خاليا من أية زخارف، ومحاطا بجدار خرسانى خفيفا وأنيقا، ويخلو من أية عناصر غير ضرورية، وكان التحدى صعبا لأكثر من سبب، الأول أن السائد فى أعمال البناء وقتها كان الأعمال اليدوية أكثر من المعدات، والثانى قدرة الأرض الطينية فى الجزيرة على تحمل مبنى من هذا النوع، وتم علاج الأمر بصب القواعد فوق فرشة عبارة عن صخرة خرسانية، تم وضعها على عمق 25 مترا، والثالث قيام العدوان الثلاثى على مصر، فكان أن توقف العمل فى البرج ثلاث سنوات (56-59).

قضى شبيب هذه الفترة مشغولا فى اختراعه المسجل باسمه فى عالم البناء «قبة شبيب»، وإنهاء ناطحة سحابه الجديدة ذات الـ33 طابقا الشهيرة بـ«عمارة بلمونت».

ثم استيقظ على تليفون من الرئاسة يخبره بأن 500 عامل فى موقع البرج فى انتظار شارة معاودة العمل.

عندما انتهى العمل كان البرج أطول من الهرم الأكبر بـ42 مترا.

(4)

أصيب شبيب ببعض الإحباط عندما اعتذر ناصر عن حضور افتتاح البرج وأناب عنه كمال الدين حسين وصلاح نصر، لكن هذا لم يُثن شبيب عن إلقاء كلمته كأن ناصر موجود، أعجبنى من كلمته هذه المقاطع:

«أقدم فيها مبنى تعتز به أنفسنا، فهو عربى فى تصميمه، عربى فى إنشائه، عربى فى كل مرحلة من مراحل تنفيذه».

«وقد راعينا فى تصميمه أحدث الطرق الإنشائية الخاصة بمادة الخرسانة المسلحة، ويحيط بالبرج من أسفله إلى أعلاه شبكة تبدو للناظر إليها أن عيونها تتسع كلما علت إلى السماء».

«ولا يفوتنا أن نسجل كفاح العامل المصرى وصبره ومهارته فى العمل من هذا الارتفاع الشاهق، رغم الظروف الجوية العصيبة التى كان يتعرض لها».

(5)

من أشهر مبانى ناعوم شبيب مبنى جريدة «الأهرام» فى شارع الجلاء، وسينما على بابا، لكن تظل «قبة شبيب» أهم اختراعاته.

«قبة شبيب» اختراع هندسى حل لعالم البناء مشكلات بناء القباب الرقيقة بالخرسانة المسلحة أيا كانت مساحتها، هذا الاختراع العالمى كان يقف خلفه صنايعى مصرى يهودى.

ناعوم شبيب مهندس مصرى يهودى، اخترع أسهل طريقة ممكنة لبناء القباب الإسلامية، وقام بتطبيق اختراعه لأول مرة فى بناء كنيسة سانت تريز ببورسعيد.

(6)

منذ قرأت الكلمة التى ألقاها شبيب فى افتتاح برج القاهرة لا يفارقنى مشهد عمال البناء المعلقين فى الهواء على ارتفاع 187مترا، على خلفية مقولته «التشييد هو عمل الإنسان لصالح أخيه الإنسان».