ناني موريتي ينعى أوروبا في فيلم "أمي"

بوابة الفجر


يمثل المخرج الإيطالي ناني موريتي طليعة مجموعة من الأسماء الإيطالية التي تمثل العصر الجديد للسينما الإيطالية، بعد أجيال من المبدعين الكبار ضمت مجموعة من الأسماء الكبيرة، مثل دي سيكا وانطونيوني وفاسكونتي والأخوين تافياني وروسوليني وغيرهم من قامات السينما الإيطالية التي رسخت حضور السينما الإيطالية التي عرفت بالواقعية الجديدة.

ومن الجيل التالي يأتي اسم ناني موريتي الذي قدم للسينما العديد من التحف السينمائية الهامة ومنها على سبيل المثال فيلم "غرفة الابن" عام 2001 والذي نال عنه "السعفة الذهبية" لمهرجان كان السينمائي الدولي وكذلك أفلام "بالمبا روزا" وغيرها.

وفي فيلمه الجديد "أمي" يذهب إلى كم من الدلالات الفكرية التي تمارس الإسقاط على المرحلة الراهنة من تاريخ أوروبا بل إنه يرسل بيانا شديد اللهجة وكأنه ينعى أوروبا.

وتعالوا نتابع تلك الحكاية البسيطة والسهلة ولكنها تأخذنا إلى كم من القضايا التي تحتاج إلى العرض والتحليل والعمق في التعامل. فنحن أمام "ام" تعيش أيامها الأخيرة في إحدى المستشفيات. ابنتها تعمل مخرجة وتدير فيلما يناقش قضايا العمال والبطالة أمام رجل أعمال يقوم بدوره الممثل الأميركي ذو الأصول الإيطالية جون تورتورو الذي يبقى طيلة الفيلم وهو يتقمص شخصية الممثل المتعجرف الذي يريد للأمور أن تسير على هواه.

أما الابن الأكبر، شقيق المخرجة، يعيش أيامه الأخيرة في العمل والرغبة في التقاعد. وهناك أيضاً الحفيدة وهي ابنه المخرجة التي تعاني من مشكلة كبيرة في التعامل مع اللغة اللاتينية.

كل تلك الشخصيات تظل تتمحور حول تلك الأم الطاعنة والتي تعاني من الإعياء والمرض والتعب وعدم المقدرة على التنفس خصوصاً بعد أن تتدهور حالتها الصحية بشكل يدعو الأطباء للقيام بعمل فتحة في الرقبة للتنفس.
وهكذا تمضي الأحداث.. الأم تتدهور صحتها. الابنة المخرجة حتى وهي تحاول البقاء بالقرب من والدتها تبقى مشغولة بالتصوير والمشاكل التي يتسبب بها الممثل الأميركي في فيلمها.

وهكذا الأمر مع الأخ الباحث عن التقاعد بعد مشوار طويل من العمل والتعب. بينما الابنة لا تبدو تحمل أي علاقة مع اللغة اللاتينية وهي اللغة المشتركة والأساسية للتفكير الأوروبي المشترك.

كل شيء عند ناني موريتي يسير وفق كتابة درامية عالية المستوى بعيداً عن المباشرة ضمن صيغ دلالات رمزية عالية تؤكد بأننا أمام كاتب محترف ومخرج يجيد حرفته ويعمل على تعميق الدلالات مشهد بعد آخر ومحطة بعد أخرى، عبر سينما هي الواقعية المفرطة وهي الحياة بكل تفاصيلها وإن ظلت الدلالات تذهب بعيداً حينما نفكك الرموز.
بدور الأم تدهشنا النجمة الإيطالية القديرة جوليا لازرياني، وبدور الابنة المخرجة مارغريتا بيي، أما دور الأخ فجسده ناني موريتي نفسه وهو أمر يقوم به في جميع أعماله بالإضافة إلى جون تورتورو الذي قدم شخصية الممثل الأميركي في الفيلم، والذي تبدو دلالاته في الفيلم صريحة وواضحة نتيجة الممارسات التي تقوم بها أوروبا وتتحمل نتائجها أوروبا بكاملها.

سينما تدعو المشاهد إلى الحوار وهو حوار عميق يحتاج إلى فهم حقيقي للظروف الموضوعية التي تعيشها أوروبا وإيطاليا على وجه الخصوص وما يحصل في إيطاليا هو بلا أدنى شك تكرار لما يحدث في جميع الدول الأوروبية من أزمات اقتصادية وبطالة ومشاكل النقابات والعمالة، بالإضافة طبعاً إلى الحضور الأميركي الذى يقدمه ناني موريتي وكأنه يختصر كل الأمور بشخصية الممثل الذى لايزال يعيش وهم النجومية والقوة والشهرة.

فيلم "أمي" للإيطالي ناني موريتي ليس من تلك النوعية من الأفلام التي تفارقك حينما تغادر الصالة بل إنه يذهب إلى الذاكرة وإلى الذات للحوار والتحليل والاستنتاج.

وهنا سنكون عندها أمام فيلم ومخرج ينعى أوروبا ويعلن موتها، مشيرين إلى أن موريتي كان أول مخرج في العالم أشار إلى أن البابا السابق سوف يستقيل من خلال فيلمه الكبير "أصبح لدينا بابا" الذي قدمه عام 2011، قبيل عام ونصف من استقالة البابا السابق واختيار البابا الجديد فرانسيس الأول.