طارق الشناوى يكتب: هل ظلمنا عمر الشريف

الفجر الفني

بوابة الفجر


فى فيلم قدَّمه فى نهاية الخمسينيات المخرج الفرنسى فرانسوا تريفو «451 فهرنهايت» أرادوا أن يحرقوا الكتب، ومن هنا جاء عنوان الفيلم، مشيرا إلى درجة الاحتراق.

فى المشهد الأخير موقف دخل ذاكرة السينما لم ولن يغادرها، وذلك عندما يتحول البشر إلى كتب، كل إنسان أصبح بمثابة كتاب يحفظه تماما، هذا مثلا «عطيل» شكسبير، وذاك «البؤساء» فيكتور هيجو، والثالث «وفاة موظف» لتشيكوف.. وهكذا تغلبوا على حرق الكتب، الذى قررت الدولة القمعية أن تمارسه على مواطنيها، وهذا هو تحديدا ما عاشه عمر الشريف فى أسابيعه الأخيرة التى سبقت رحيله، لكن الذى كان يمارس القمع هو عقله، الذى صار يمحو من الذاكرة كل أفلامه، ولا يتذكر منها شيئا كما أذاع ذلك ابنه طارق عمر الشريف قبل نحو شهرين، عندما أكد وصول والده إلى مرحلة متأخرة من «ألزهايمر»، لكن المشهد الآخر من الصورة هو أننا صرنا نحفظ أفلام نجمنا الكبير، التى لا تكفّ الفضائيات عن بثها، هذا «صراع فى الوادى» وذاك «نهر الحب» والثالث «دكتور زيفاجو» والرابع «السيد إبراهيم وزهور القرآن».

من الأفلام التى قدمها عمر الشريف فى السنوات الأخيرة الفيلم الفرنسى «نسيت أن أقول لك» إخراح لوران فينس عام 2009، حيث نراه فى النهاية مريضًا بـ«ألزهايمر»، قبل أن يتحول الشريط السينمائى إلى حقيقة بعدها بخمس سنوات.

عمر الشريف نسىَ أفلامه، وربما قبل الرحيل نسىَ أيضا حتى أنه كان نجمًا أو لعله نسىَ اسمه، ولكن هل من الممكن أن تُمحى من الذاكرة البصرية سينما عمر الشريف عربيًّا وعالميًّا؟ بالطبع لا، سيظل عمر عنوانا مضيئا لنا فى العالم، فلقد أصبح اسمًا يمثّل كل العرب فى السينما العالمية.

سافر عمر الشريف إلى «هوليوود» وقدم «لورانس العرب»، وذلك فى مطلع الستينيات للمخرج العالمى ديفيد لين، ومن بعدها بدأت رحلته مع السينما العالمية، وأيضا مع هذا البحر من الشائعات، الذى لا تنقطع موجاته الهادرة!!

من الممكن أن يسىء البعض تفسير بعض كلماته، الكلمة تخرج من قلبه مباشرة إلى الناس، ولا يضع بين حساباته أى عوامل أخرى، ولهذا قد تصطدم بعض آرائه بما استقر عليه الناس.

عمر الشريف يتعامل دائما بقدر من البساطة والوضوح مع كل المواقف التى قد يراها البعض تحمل قدرا من الحساسية، وأحيانا لا يدرك مدلول الكلمة، عندما مثلا يقول فى ندوة فى مهرجان القاهرة قبل سبع سنوات إن عبد الناصر كان عميلا للأمريكان، نتلقفها فى الصحف والمجلات والفضائيات، ونعتبره يتعمد اتهام جمال عبد الناصر بالخيانة والجاسوسية، رغم أنه كان يقصد أنه «يتعامل»، لكن اللغة العربية التى لم يكن منذ مطلع الستينيات يتعامل بها بانتظام كانت تخونه أحيانا فى العثور على اللفظ الملائم، فقال «عميلا» بدلا من «يتعامل»، وهو لا يدرك الفارق بينهما، وحاول التوضيح، لكننا ظللنا نحاسبه على تلك الهفوة. وهو ما تكرر مرة أخرى عندما أقيمت ندوة فى مهرجان الإسكندرية قبل خمس سنوات، وكنت أديرها وقال إن الجمهور لا يختار الأفلام العظيمة ليقبل عليها، والدليل أن أفلام إسماعيل ياسين حققت أعلى الإيرادات، لم يكن يريد التقليل من شأن إسماعيل ياسين، لكن من السياق أراد أن أن يؤكد أن أفلاما بلا عمق فكرى من الممكن أن تحقق أعلى الإيرادات، ولم يرحموه، ليس حبًّا فى إسماعيل ياسين، لكن بدافع رغبة دفينة فى النيل من عمر الشريف. مثلما قال إن فلوس الفن حرام، بالتأكيد لم يكن متطرفا دينيا يحرّم الفنون، لكن كان يريد أن يقول إنه بلا مجهود يُذكر يحصل النجوم على أجور ضخمة.

لعب الإعلام أدوارا من حيث لا ندرى، أو لعل البعض كان يدرى، وظلمنا عمر الشريف عندما تعمدنا أن نحاسبه على زلة لسان هنا أو كلمة فى غير موضعها قالها هناك، ويبقى علينا دَيْن ينبغى أن نسدده لعمر الشريف، وهو أن نذكر دائما أفلام عمر الشريف، ونستعيدها حتى لا يمحوها النسيان، وأن نتذكر كم أحب هذا الفنان مصر وشعبها، وتحديدا فقراءها.