خطبة الوداع

إسلاميات

بوابة الفجر


لم يحج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا حجة واحدة حرص فيها الحبيب صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أن يعلم المسلمين مناسك الحج الصحيحة التي كان عليها أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام بعد أن حرفت من بعده، لذا قال للمسلمين يومها: "خذوا عني مناسككم"، كما حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة الوداع التي ألقاها على المسلمين في الحج على صعيد عرفات، أن يرسي فيهم مقاصد الدين العليا ويعرفهم بحقوق الإنسان على أخيه الإنسان حتى تستقيم الحياة وتعَمُر الأرض.

لقد مثلت خطبة الوداع للحبيب صلى الله عليه وآله وسلم أول إعلان رسمي لحقوق الإنسان، حيث اختصرت معالم الدين ومقاصده العليا التي سعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنشرها على مدار سنوات الدعوة التي بلغت ثلاث وعشرين سنة، فوضعت الخطبة ضوابط إنسانية عظيمة تؤكد على عدم التمييز بين البشر مهما كان دينهم أو لونهم أو جنسهم أو معتقدهم، وعظمت من حرمة سفك الدماء وسرقة الأموال وهتك الأعراض، وأوصت الرجل بالمرأة واستفاضت في ذلك، فسبقت خطبة الوداع في ذلك المواثيق والقوانين الدولية لحقوق الإنسان التي أعلنت فيما بعد ويتباهى الغرب بها.

ففي خطبة الوداع وضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قواعد إنسانية مهمة قرر فيها أن للإنسان على أخيه الإنسان حقوق وحرمات أبدية يجب ألا يتعداها لكي يحي البشر في تراحم وتآلف وتكامل مطمئنين، ليقوموا بمهمتهم في عمارة الكون، وأكد فيها كذلك على ضرورة حفظ الأمانات بكل ما تحمل الكلمة من معنى فالدين أمانة، والمال أمانة، والعرض أمانة، والصحة أمانة، والجسد أمانة، وحفظ حقوق العباد أمانة، كما أقر صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله مبدأ المساواة بين البشر كونه إنسانًا له حقوق وعليه واجبات لا تفرقه بين إنسان وأخر .. فكل بشري محفوظ دمه وماله وعرضه في الإسلام.

ولم يغفل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقوق المرأة التي شدد الوصية بها، بل اعتبر المرأة أمانة عند الرجل سيسأل عنها يوم القيامة إن قصر في حقها وآذاها.

وحتى حق المجتمع أرساه الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم بإقرار بعض الأحكام الفقهية التي يتغافل عنها الكثير من الناس حتى وصلنا إلى حالة مذرية من الفساد في مجتمعاتنا، مثل أخذ الربا فنبه على حرمته، وكذلك شرع القصاص وأحكام المواريث والوصية ووضع ضوابط لقضايا النسب، لأن كل هذه الأمور تنعكس بشكل مباشر على المجتمعات وتؤثر عليها وعلى استقرارها وأمنها المجتمعي.

وأترككم مع نص خطبة الوداع للحبيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتتأملوها وتتدبروا معانيها الراقية التي لو اتبعها كل مسلم لصلحت حال أمتنا، ولانشغلنا بعمارة الأرض عن الصراعات والفساد.

قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم -: "أيها الناس: اسمعوا مني أبيِّن لكم، فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في مَوقفي هذا.

أيها الناس:
إن دماءكم، وأموالَكم وأعراضكم، حرامٌ عليكم إلى أن تَلقَوْا ربَّكم، كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغتُ، اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة، فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها.

إن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربًا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبدالمطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث، وإن مآثر الجاهلية - يَعني أعمالها - موضوعة، غيرَ السِّدانة والسقاية، والعَمْد قَوَدٌ – يَعني: القتل العمد قصاص - وشِبْهُ العَمد ما قُتِلَ بالعصا والحَجَر، وفيه مائة بعير، فمن زاد، فهو من أهل الجاهلية.

أيها الناس:
إنَّ الشيطان قد يئسَ أن يُعبدَ في أرضكم، ولكنه قد رضي أن يُطاعَ فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم.
أيها الناس:
إن النسيء زيادةٌ في الكفر، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدةَ الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعةٌ حُرم: ثَلاثٌ متواليات، وواحدٌ فرد، ألا هل بلَّغت، اللهم فاشهد.

أيها الناس:
إن لنسائكم عليكم حقًّا، ولكم عليهن حقٌّ؛ ألا يُوطِئنَ فُرُشَكم غيرَكم، ولا يُدخِلنَ أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتِينَ بفاحشةٍ، فإذا فعلنَ ذلك، فإنَّ الله أذِنَ لكم أن تَهجروهُنَّ في المضاجع"، ثم قال: "فإن انتهينَ وأطعنكم، فعليكم رزقهُنَّ وكِسوتهُنَّ بالمعروف، وإنما النساء عوانٍ عندكم - يعني في بيوتكم- ولا يَملكنَ لأنفسهِنَّ شيئًا، أخذتموهُنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجَهنَّ بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهنَّ خيرًا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.

أيها الناس:
إنما المؤمنون إخوة، ولا يَحلُّ لامرئٍ مالُ أخيه إلا عن طيب نفسٍ منه، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد، فلا ترجعوا بعدي كفَّارًا يَضرب بعضُكم رقابَ بعض، فإني قد تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده؛ كتاب الله.

أيها الناس:
إن ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحد، كلكم لآدمَ، وآدمُ من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عَجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.

أيها الناس:
إنَّ الله قد قسم لكلِّ وارثٍ نصيبَه من الميراث، ولا تَجوز لوارثٍ وصيَّةٌ، ولا تَجوز وصيَّة في أكثر من الثُّلثِ، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، من ادَّعى لغير أبيه، أو تَولَّى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يَقبلُ الله منه صرفًا ولا عدلاً".