د.أحمد يونس يكتب: لسن بغايا بل حوريات
حـياة الإنسان تكون قد أصبحت خالية تماماً من المعنى، إذا فقد النـاس فــى بــلد ما القـدرة على العشق، أو الإحسـاس بأن الفـرحة حـق مـشـروع دائماً لجميع البشر. العكس لا يقود إلا إلى ما نحن فيه.
يكفى أن أشير هنا إلى مكــان يعتبره أغلب الأوروبيين متخلفاً. كل شــيء يوحى بأن العـرب لابد أن يكونوا قد عاشوا فيه ـ ذات يــوم من قرون. كل شىء: الدكاكين المتلاصقة كصــفوف من علب الكـبريت، والحانات الخافتة الأضــواء التى يعكس زجاج أبوابها دخان التبغ الأسود ومـلامح البشر من مواطنى البحر الأبـيض المتوسـط. أرضياتها مغطاة بالقواقع المهشمة التى يلقى بها الزبائن بعد أن يأكلوا الحيوانات التى كانت تعيش داخلها. نداءات الباعة المتجولين وصـياح النسوة الآتى من مــنـاور البـيـوت القــديمة والوجـوه المبتسمة رغم الزحام والمطر. الـروائح العالقـة بالجو فــى الشوارع الخــلفية من عشـاء الليــلة الماضية، والفـتارين المبهرجـة كأغــنية اختلطت فيها تموجات الحنجرة التركية مع نغمات البيانولا أو الماندولين.
أقترب من شــيخ يقف على الناصية منهمكاً فى مـراقـبة الطريق، كأنما هو يحصى عـدد العــشاق الذين يعبرون متشابكى الأيدى من أمامه. أسأله عن مطعــم تتناسب أسعاره مع إمكانياتى، فيجيب بينما هو يتفحصنى بخبث: أنطونيو جيفانيلى هو أفضل من يصنع الكسكــسى فى هذه الجزيرة. تعلمه من هاسان بن ألى شخصياً. هكذا نطق اسمه. لم أشأ أن أستفسر منه عمن يكون هـذا الحـسـن بن عـلى شخصياً. كـادت السـيجارة التى أوشكت على الانتهاء تسقط من زاوية فمه، عندما أشار بإصبعه إلى نقــطة غــيـر محــددة خلف النخيل متمتماً: ابحث عنه هناك. تذكـرت ما قاله الإدريسى فى معرض الحديث عن باليرمو: هذه المدينة تحير المتأملين فى أحوالها.
العشق هو هواية هذه البلدة التى يبدو كما لو أنها مقتطعة من الحلم. العشق كان أيضاً سلاحها ضد المهاجمين، فلقد انتصرت على جميع الغزاة بالعشق. فتيات الليل يقفن فى أزقة الدعارة أمام بيوتهن ضاحكات، أو يعاكسن المارة بشقاوة بالغة الرقة، كأنهن حوريات خرجن من البحر فجأة. لا يعطين الانطباع بأنهن يتاجرن بأجسادهن بقدر ما يوحين بأن مهنتهن هى توزيع البهجة على المارة بالمجان.
اشتهر الملك روجر النورماندى بسعة الأفق. لم يكتف برفض المشاركة فى الحملات الصليبية فقط. لكنه ألغى أيضاً دور البابا كوســيط بين الله والناس. إيمانه الذى لا يتزعزع بحرية الاعتقاد هو الذى سمح لجميع سـكـان صقلية، يونانيين كانوا أو عرباً أو بيزنطيين، بـأن يتعايشوا خارج مستنقع التطــرف الهمجى الذى أدى إلى الكثير من الفظائع أثناء القــرون الوسطى. كنيسة القــديس يوحنا، شارك المهندسون العرب فى بناء قبابها من الحجر البركانى الأسود. كذلك فلقد كان الرجل منحازاً إلى الفنون على اختلاف أشكالها، فاختلطت الزخارف التى تشبه نقوش السجاجيد الفاطمية بأيقونات الأديرة أو أسـقــف الكاتدرائيات. هنا عاشت الحضارات المتباينة هى الأخرى قصة عشقها الساخنة.
الطريق المؤدى إلى قــلـب باليرمو من جهة البحر، تتناثر على جانبيه الأماكن التى تجسد عشق الحياة لدى أهل الجزيرة. ضفائر البنات التى تتلاعب بها نسمات الشتاء المتمردة، تكتب فــى الهواء قصائد تحكى عن الأمسيات الشجية فى حدائق الشوق.
وعلى المقاهى فى قاع المدينة، شــبـاب من الجنسين يغنون ويرقصون ويتدفئون بتبادل عبارات الغزل. لا تشغلهم كثيراً تعـليقات العاجزين عـن الحـب. إنهم مستغرقون فى قصصهم الخاصة خارج الزمن العادى، ولا وقت لديهم يضيعونه فى الجدل العقيم.
ليس من العدل أن يظفر أبداً بالحرية مـن فقد القـدرة على العشق، أو الإحسـاس بأن الفـرحة حـق مـشـروع دائماً لجميع البشر، أو مـن ينظر إلى الدنيا باعتبارها مـجرد مكــان لا يصلح إلا لانتظار الموت.