د. نصار عبدالله يكتب: فاروق ظالما ومظلوما «2»

مقالات الرأي




كثيرا ما تدفعنا جهامة الحاضر إلى الهروب، وحينئذ كثيرا ما يكون الهروب إلى الماضى أكثر إغراء من سواه.. ربما لأن الماضى يرتبط فى وجداننا فى جانب منه على الأقل بما هو معلوم.. أما المستقبل فهو بأكمله تقريبا واقع فى نطاق المجهول.. بكل ما يمثله المجهول من مصادر للخوف وللقلق.. ربما كان هذا سببا من الأسباب التى تفسر لنا تلك الموجة من الحنين إلى عصر الملكية والتى أطلقت عليها وصف الركسوتالجيا.. ومن بينها سلسلة المقالات التى يكتبها الأستاذ صلاح منتصر بعنوان «فاروق ظالما أو مظلوما» والتى أتابعها كما ذكرت فى العدد الماضى بشغف شديد.. تماما مثلما أقبلت على تلقى أعمال كثيرة من قبل تناولت الملك السابق، سواء كانت على هيئة كتب أو مقالات أو أعمال درامية، ومع كل عمل منها كنت دائما أستحضر ذكرى ذلك اليوم الذى لم يبرح ذاكرتى قط رغم أننى لم أكن إذ ذاك قد بلغت السابعة من العُمر... ويوم عاد شقيقى الأكبر «نجيب» من خارج المنزل مهرولا واندفع إلى الداخل وهو يصيح يامّة «يا أمى».. شالوا الملك يامة.. خبطت أمى بكلتا يديها على صدرها قائلة: ياكبدى.. ياكبدى، شالوه ليه ويجيب عليها أخى: ظباط الجيش يامة خلوه يتنازل عن العرش لابنه أحمد فؤاد.. بس شكلهم كده ناويين على حاجة تانى.. ولسه ما قالوهاش.. تجيبه أمى ربنا يستر يا زكريا ياولدى «كان نجيب هو الاسم الرسمى لأخى، أما اسمه المتداول بيننا فهو زكريا...».. لم يكن مركز البدارى قد دخلته الكهرباء بعد «والتى كان دخولها بعد ذلك بأكثر من عشرة أعوام واحدا من إنجازات ثورة يوليو» وبالتالى لم تكن هناك أجهزة راديو تعمل بالكهرباء،.. فقط كان هناك عدد محدود من الأجهزة التى تعمل بالبطارية السائلة والتى تحتاج إلى الشحن بين الحين والحين وكان استعمالها يقتصر على الصفوة من الأعيان!، أما الجهازان العموميان اللذان يستقى منهما عامة الناس الأخبار فقد كان أحدهما بنادى البلدية والآخر بمقهى «الديبة» وكانا يعملان بالبطارية السائلة أيضا، ولكن الحاج عبدالله نصار «جدى» أنشأ محطة كهرباء صغيرة وقام بتوصيل الكهرباء إلى منزله عبر أسلاك هوائية مثبتة على أعمدة خشبية تمتد من منطقة الجرون حيث توجد المحطة إلى أن تصل إلى المنزل، وسمح لأقاربه بأن يقوموا بعمل توصيلات لإنارة منازلهم طالما كانت تلك المنازل واقعة فى مسارات الخطوط الهوائية، وهكذا أصبح بوسع أقاربنا أن يقتنوا أجهزة للراديو تعمل بالكهرباء..غير أن المحطة كانت تعمل من المغرب إلى الثانية عشرة مساء عندما يأوى الحاج إلى فراشه فتنقطع الكهرباء عن الجميع!!..يوم 23يوليو حين أذيع بيان الحركة المباركة «هكذا كانت تسمى فى البداية»..قرر الحاج عبدالله تشغيل المحطة طوال فترة عمل الإذاعة، وكانت وقتها تبث على فترتين: صباحية ومسائية، وذلك حتى يتاح له هو شخصيا، ولكل من يريد أن يستمع إلى الأخبار وإلى خطابات اللواء محمد نجيب وفيما بعد خطابات جمال عبدالناصر...فى اليوم التالى لرحيل الملك صدرت الصحف وهى تحمل صورا مؤثرة لمشهد الرحيل..وكانت إحدى هذه الصحف وأظنها الأخبار قد قامت بتوزيع صورتين مكبرتين بالورق المقوى إحداهما لعلى باشا ماهر وتحتها بالبنط العريض: رجل الساعة، على ماهر، والأخرى للواء محمد نجيب، وتحتها بالبنط العريض: «قائد الحركة المباركة».. وشيئا فشيئا بدأ يخفت محمد نجيب فى الصحافة والإذاعة وبدأ يسطع جمال عبدالناصر..مازلت أذكر إلى يومنا هذا خطابه الشهير الذى ألقاه فى ميدان المنشية، وما زلت أذكر صوت الطلقات التى حملها إلينا الميكروفون بوضوح شديد والتى لم أدرك فى حينها أنها طلقات رصاص موجهة إليه... ما زلت أذكر صوته وقد تغيرت نبراته فجأة وهو يردد: ليبق كل منكم فى مكانه.. ليبق كل منكم فى مكانه..فى اليوم التالى جاء إلى مدرستنا الابتدائية..أشخاص أظنهم من هيئة التحرير...دخلوا إلى الفصل ومعهم ناظر المدرسة الذى تبادل الحديث مع المدرس بصوت غير مسموع...لكنه قال لنا فى النهاية.. مصر كلها النهاردة طالعة مظاهرات احتفالا بنجاة الرئيس عبدالناصر من محاولة الاغتيال الآثمة...لكن انتو لسه سنكم صغيرة..سيبوا المظاهرات لتلاميذ ثانوى!..واحنا حنتجمع فى حوش المدرسة علشان نحتفل بالمناسبة مع بعض، وقد كان..خرجنا إلى الفناء وخطب الخطباء..ومن بينهم هؤلاء الذين أظن أنهم من هيئة التحرير..وهتفنا طويلا لعبدالناصر ثم تركونا نعود إلى منازلنا بعد أن أوصانا الناظر ألا ننضم إلى أية مظاهرة إذا تصادف ووجدنا واحدة منها.