لغز الأب الغامض فى الخطابات الشخصية لـ«بن لادن»

العدد الأسبوعي

بوابة الفجر


يفخخ الدفعة الثانية من تسريبات وثائق زعيم القاعدة

وسائل الإعلام خلطت بين رسائل أسامة ووصية ابنه سعد إليه التى كتبها الأخير بخط يده فى أغسطس 2008 أيضًا

محمد العطاس الأب المحتمل فى رسائل بن لادن هو زوج أمه علياء غانم.. كان موظفا فى شركة والده واختاره للزواج منها عندما قرر تطليقها

المخابرات الأمريكية ذكرت أن أسامة بن لادن كتب فى أغسطس 2008 وصية لوالده الذى توفى قبل ذلك التاريخ بـ 47 عاما يطلب منه فيها الاعتناء بزوجته وأطفاله وأن يسامحه ويتصدق عنه الصدقة الجارية

فى آخر تسريباتها عن الليلة الدرامية التى سقط فيها أسامة بن لادن فى مدينة أبوت آباد الباكستانية (2مايو2011)، قررت وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) الإفراج عن الدفعة الثانية، من وثائق بن لادن الموجودة بحوزتها.

الوثائق تضمنت الخطابات الشخصية والتنظيمية التى تركها زعيم القاعدة كوصايا وتعليمات لزوجته ومعاونيه، ووصل عددها وفقا للتصريحات الرسمية لمسئولين فى الوكالة إلى 113 رسالة يعود تاريخ غالبيتها إلى الفترة من 2009و2011.

وتضمنت وصية بن لادن بشأن تقسيم ثروته الموجودة فى السودان البالغة 29مليون دولار، وتخصيص غالبيتها لمواصلة "الجهاد العالمى" ومخاوفه من احتمالية أن تكون المخابرات الأمريكية قد زرعت شريحة تعقب خلال عملية حشو للضروس، قامت بها إحدى زوجاته (وهى على الأرجح خيرية صابر أم حمزة) لدى طبيبة أسنان فى إيران، وكذلك أوامره لرجاله بضرورة الالتزام بالإجراءات التأمينية، للنجاة من فخ شرائح التعقب والاستهداف بطائرات بدون طيار.

أما الرسالة الأكثر غموضا بين ما تم الإفراج عنه من رسائل الدفعة الثانية من وثائق أسامة بن لادن، فكانت رسالة إلى والده يوصيه فيها بالاعتناء بزوجته وأطفاله فى حال وفاته أولا، وأن يتصدق باسمه الصدقات الجارية، كما ناشده بأن يسامحه إذا كان قد اقترف مالا يرضيه.

تلقفت وسائل الإعلام الدولية السبق الجديد، ونقلتها عنها الوكالات ووسائل الإعلام العربية ثم المحلية، وبدأ الجميع فى تداول الانفراد الأكبر هذه المرة، برسائل تقول الاستخبارات الأمريكية إنها بخط اليد لأسامة بن لادن مؤسس وزعيم القاعدة بنفسه، دون أن يلتفت أحد للسؤال الأهم، وعلامة الاستفهام الكبرى التى قد تطعن فى صحة هذه الخطابات برمتها.. من يكون هذا الأب الذى يراسله أسامة بن لادن ويكتب له وصية فى شهر أغسطس 2008- بحسب تاريخ الخطاب المنشور- إذا كان والد أسامه، محمد بن لادن ملياردير الإنشاءات السعودى الأشهر، متوفياً بالأساس منذ 3مارس 1961، أى بفارق 47 عاما عن تاريخ الخطاب، حيث لقى مصرعه فى حادث تحطم طائرته الخاصة بمدينة الطائف السعودية، وتفحمت جثته بالكامل لدرجة أنهم لم يتعرفوا عليه إلا من ساعة يده، وكان أسامة لا يزال طفلا لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره.

المعلومات المتداولة إعلاميا أيضا فيما يتعلق برسالة أسامة بن لادن إلى والده الغامض أصبحت ملتبسة ومتناقضة فيما يتعلق بالتفاصيل الضيقة، فبينما التزمت عدد من المطبوعات الأجنبية الأشهر مثل النيويورك تايمز والإكسبرس تريبيان ومعها النسخ الإنجليزية للأهرام والجزيرة، بتاريخ محدد للخطاب وهو 8 أغسطس 2008، فإن مطبوعات ووسائل إعلام عربية أخرى مثل الحياة والشرق الأوسط قد أقرت تاريخا آخر لنفس الخطاب وهو 15 أغسطس 2008، وإن اتفق الجميع فى مضمون الرسالة وما فيها من وصية وطلب للصفح.

لكن.. من ناحية أخرى فإن التاريخ 15أغسطس 2008 يصل بنا إلى رسالة أخرى متاحة ومنشورة فعليا والأهم أنها "مشابهة جداً" .. وورد فيها النص التالى أيضا: أبى الغالى، أوصيك بزوجتى وأبنائى خيرا، وأن تسأل عنهم باستمرار وتتابع أخبارهم وتسعى لهم بزواجهم وحاجياتهم، فهم منى وأنا منك وهم أبناؤك كذلك، أبى الغالى احتسبت نفسى مهاجرا ومجاهدا فى سبيل الله، فإن قتلت فأكثر من الدعاء لى وتصدق لى بصدقات جارية، فإنى بأمس الحاجة لزاد يبلغنى تلك الدار الباقية .. وأرجو أن تسامحنى إذا بدر منى مالا تحبه".

الرسالة السابقة التى تتطابق فى تاريخ نشرها وفى مضمون وصاياها، وفى نص بعض فقراتها أيضا، فى بعض المطبوعات مع الرسالة الأخيرة المنسوبة إلى أسامة بن لادن، هى فى الحقيقة رسالة بخط اليد ممهورة بتوقيع سعد أسامة بن لادن إلى والده، وسعد هو الابن الثالث لأسامة من زوجته الأولى نجوى غانم، وتم اعتقاله فى إيران مع عائلته، ثم تداولت الأنباء عن فراره من الإقامة الجبرية هناك إلى باكستان، ومن المرجح أنه لقى مصرعه هناك بعد ذلك فى غارة أمريكية بطائرة بدون طيارسنة 2009.

وعلى ذلك فإن احتمال الخلط الإعلامى بين رسالة من المستحيل أن يكون بن لادن قد كتبها إلى أب ليس له وجود على قيد الحياة من الأساس، وبين رسالة ابنه سعد إليه، لم يعد من الممكن استبعاده من لغز رسائل بن لادن.

احتمال آخر أيضا قد لا يمكن استبعاده، وهو أن تكون الرسالة موجهة من بن لادن إلى محمد العطاس، زوج والدته الذى أشرف على تربيته، وأن يكون مخاطبته له فى الرسالة بصفته أبيه، على سبيل المجاز والعرفان بالجميل، علما بأنه من المثبت أن العطاس كان لا يزال على قيد الحياة حتى آخر حوار أجرته علياء غانم والدة أسامة بن لادن لصحيفة الشرق الوسط فى 2003 حيث قالت إنها تعيش فى جدة فى كنف زوجها مع ابنتها وأبنائها الثلاثة منه، وربما استمر الحال على ذلك حتى تاريخ تحرير الخطاب اللغز.

وعلما أيضا بأن لزواج العطاس من علياء غانم والدة أسامة بن لادن، قصة درامية لا تخلو من إثارة، حيث كان من المعروف عن محمد بن لادن والد أسامة أنه كان مسرفا فى الزواج، حتى أنه توفى عن 54 طفلا من 22 زوجة، ولا يمكن الجزم بعدد النساء اللائى تزوجهن طوال حياته، فقد كان يتزوج بعد الظهيرة ويطلق فى المساء، وفقا للروايات المتداولة عنه فى المملكة العربية السعودية حتى الآن، كما كان يمتلك عددا من الجوارى كن يبقين فى بيته إذا أنجبن منه أطفالا.. وكان أسامة بن لادن الذى يحتل الترتيب الـ17 بين أبناء محمد بن لادن يردد دائما أن والده "أنجب خمسة وعشرين ابنا للجهاد".

وفى صيف 1956 التقى بن لادن الأب - الذى ستتولى شركته بمفردها ترميم المساجد الثلاثة، الحرم المكى والنبوى والمسجد الأقصى - بفتاة ريفية جميلة من ميناء اللاذقية بسوريا لم تتجاوز الـ14من عمرها هى علياء الغانم التى تزوجها بعد 9 زيجات سابقة عليها، وأنجبت منه ابنهما الوحيد أسامة، وكانت تعرف بين نساء عائلة بن لادن بـ"الزوجة الجارية" لأنها من أصول غيرسعودية.

وبينما اعتاد أن يزوج طليقاته من اللائى أنجبن منه أطفالاً إلى موظفين من شركته، ولم يكن لأى منهن رأى حتى لو وجدت نفسها مضطرة لأن تتزوج سائقا أقل منها نسبا ومكانة اجتماعية، غير أن علياء الغانم والدة أسامة كانت محظوظة لأن محمد بن لادن عندما قرر أن يطلقها، اختارلها أحد الموظفين التنفيذيين فى شركته وهو محمد العطاس، الذى انتقل أسامة - وكان لا يزال طفلا - للإقامة فى منزله، وظل يعيش فى كنف العطاس 7سنوات أخرى إلى أن قرر الزواج للمرة الأولى من نجوى الغانم ابنة خاله وتأسيس منزل مستقل سنة 1974.

وفى كل الأحوال، فسواء كان المتداول عن رسالة أسامة بن لادن لوالده هو رواية وهمية وغيرصحيحة برمتها، أو أن هناك خلطا إعلاميا مع رسالة ابنه سعد إليه، أو أن هذه الرسالة كانت مرسلة فعلا إلى محمد العطاس زوج والدة أسامة، أو إلى شخص آخر مجهول وصل تأثيره على بن لادن وعمق علاقته به إلى الحد الذى تجاوز فيها الشيخ عبدالله عزام نفسه، فستظل الحقيقة الوحيدة التى نملكها والمثبتة بين كل تلك الاحتمالات، هى أن والد أسامة بن لادن قد مات فعلاً قبل مايقرب من نصف القرن من الرسالة التى تقول المخابرات الأمريكية إنه وجهها إليه!.