د. رشا سمير تكتب: المعمارى.. حكاية عاشق تحدى الحُلم

مقالات الرأي



كان يوما غابت فيه الشمس عن سماء بيروت وتعانقت السُحب الرمادية ثائرة تُفصح عن غضب أوشك أن يسقط زخات من المطر فوق رؤوس العشاق.

إنها بيروت.. ست الدنيا التى لم تفشل يوما فى أن ترقص حتى إن كان الرقص على إيقاع أنغام موسيقى الحرب ونغمات الهزيمة.

اصطحبنى سائق الفندق إلى الجبل مصمما على أن يأخذنى إلى حُلم لن أنساه طالما حييت ومكان سيظل فى قلبى هو بيروت كلما زرتها.. قصر موسى المعمارى.

وكانت المفاجأة التى وضعها القدر فى طريقى.. أننى لمحت رجلا عجوزا يبلغ من العمر 85 عاما يرتدى روبا أزرق وطرطورا فوق رأسه ويتكئ على عصاه، يصعد بصعوبة المنحدر متجها إلى القلعة.

تسمرت فى مكانى.. وقلت للسائق: هل هو من أظن؟

رد على الفور: لقد تحقق لك حُلم الكثيرين ممن زاروا القصر.. إنه موسى المعمارى!

ووجدت نفسى وجها إلى وجه مع الرجل الذى تحمل قسمات وجهه تحدى الدنيا وترسم تجاعيده ألف حكاية عن العشق.. قلت له: «أخيرا قابلت صاحب أجمل قصة حب بلبنان»

رد محتدا: «بالعالم.. بالعالم كله»..

وبابتسامة المحارب أخذنى من يدى إلى عالمه الصغير الذى أصبح علما من أعلام لبنان.. أخذنى إلى داخل القلعة وبدأ يحكى لى بصوت يحمل الذكرى ونخب الفوز:

«بدأت فى بناء تلك القلعة منذ عام 1945 وانتهاء بعام 2015 أى 71 عاما من العمل.. كانت نواة الفكرة 18 ألف ليرة ادخرتها منذ أيام الفقر وقررت بها أن أبدأ البناء، فكان حلمى يكبر كلما ارتفع البناء وكانت عزيمتى تشتد كلما تذكرت صوته وسكنتنى صورتها»

سألته: «من هو؟ ومن هى؟»

قال: «كنت طالبا فاشلا فى دراستى لا أهوى الرياضيات واللغات وكانت كل هواياتى وأنا طفل اللعب بالجبس وخلق أشكال منه، وكثيرا ما كنت أسمع أمى وهى تدعو لى بالليل وتقول (يارب اجعل التراب فى يد موسى ذهبا).

التحقت بمدرسة المتنبى البسيطة لأن والدى لم يكن يمتلك رفاهية التعليم الغالى..

وفى أحد الأيام وعمرى 15 عاما، مر معلمى أنور عرنوق بجوارى فى الفصل ليجدنى أرسم قلعة فى ورقة فجن جنونه، خصوصا بعدما قلت له إنى رأيت تلك القلعة فى المنام وسوف أصبح مالكها، وأخذت أردد عليه إنه حُلمى وسوف أحققه غصبا عن العالم كله.. انهال المدرس على ضربا بالعصا ومزق الورقة وظلت كلمات السخرية التى رددها وسط زملائى تطن فى أذنى حتى اليوم وظلت صورة زميلتى مريم التى أحببتها وسخرت من مشاعرى ومن فقرى وأنا راكع على الأرض أمامها بأمر من مُعلمى، هى الصورة الوحيدة التى تقفز إلى ذهنى كلما أرهقنى الحلم.. جريت من أمامه عاقدا العزم على ألا أعود إلى تلك المدرسة مرة أخرى وقررت أن أبنى القلعة حتى لو تحقق الحلم بعد مائة عام، فاشتغلت فى كل شيء وكنت كلما أدخر مالا أجرى لأستكمل البناء».

عاد يقول وقد بدا التأثر على وجهه: «قررت أن أجسد حياتى بتماثيل من الجبس فى كل مكان بالقلعة لتبقى شاهدا أبدا على حُلم حققه التحدى والعشق.. هذه غرفة تجسد الفصل والمعلم وزملائى يسخرون، وهذه تماثيل لجدى وجدتى وأمى وهى تهدهدنى.. كنت أرى حياتى كل يوم شريطا يمر أمامى كلما دخلت القلعة.. فتحتها للطلاب والزائرين من كل مكان وأنا أشعر بالنجاح كلما لمحت نظرة الانبهار فى أعينهم، أخيرا تحقق الحُلم، وأصبحت من الأغنياء والمشاهير.. بحثت عن معلمى أنور لأصطحبه ليرى نجاحى بنفسه ولكن للأسف كان قد اختاره الله إلى جواره.. وبحثت عن مريم ابنة الجيران التى كانت دوما تقول لى والدى يملك قصرا أما أنت فعارى القدمين).. ودعوتها لزيارة القصر وجعلتها تركع أمامى فابتسمت وقالت : أخيرا حققت حلمك يا موسى.. أنا سعيدة لأننا لم نتزوج فالزواج منى كان سيجعل لحُلمك نهاية أما اليوم فأنت حققت ما هو أبعد من الحُلم.. حققت المستحيل»..

انتهت قصة موسى.. وانتهت زيارتى للقلعة.. ودعنى عند الباب بإبتسامة وقال لى (أعلم أنك سوف تكتبين عنى.. وسأنتظر).

إلى سيد القلعة.. موسى المعمارى.. العاشق الذى إقتنص حلمه من بين ضلوع الفقر وبمعول العاشق.. كنت لى شعاع أمل فى معشوقتى بيروت.. وستظل كلماتك أبدا ناقوسا فى ذاكرتى: (المرء يُعرف بإنجازاته ولا وجود لكلمة مستحيل فى عقول الرجال العظماء)..