د. رشا سمير تكتب: الإرهاب والانقلاب

مقالات الرأي



لم يفرط يوما نيرون بن ديميتيوس فى السيادة الوطنية أو يساوم عليها..كان ديكتاتورا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.. اختطف نيرون حُكم الإمبراطورية الرومانية صبيًا..وسرعان ما تمكن منه جنون العظمة وهوس الانفراد بالرأى والحكم معا، فشرع فى التخلص من أعوانه قبل أعدائه.. توالت عليه القلاقل ومحاولات الانقلاب..فلم يُنصت ولم يتزعزع عن موقفه..وفى 18 يوليو عام 64 م، اشتعلت النيران فى روما لحوالى 6 أيام متوالية، تجولت خلالها ألسنة اللهب فى أرجاء المدينة لتحصد الأرواح، وتحولت المدينة الحالمة إلى رماد وركام..

وعلى أطراف المدينة وقف نيرون يشهد الحريق من شرفة قصره بينما يعزف قيثارته بهدوء شديد يرسم ابتسامة طمأنينة على شفتيه!

إذن فالإرهاب عمل لا تقوم به الجماعات المتطرفة ولا العقول المخربة فقط.

الإرهاب هو إرهاب الفكر، إرهاب العقيدة وإرهاب الحريات.

يكتب الزمان بنفس القلم ويؤرخ لنفس الأشخاص..فما أشبه الليلة بالبارحة.

ما الفرق بين نيرون وأردوغان؟ وما هو الشىء الذى يدفع الشعوب للانتفاض أو يدفع الجيوش للانقلاب؟

الحقيقة أن الدوافع قد تختلف فقط لو اختلفت المصالح..بل وعادة ما يتحول الحاكم إلى ديكتاتور لو وقف الجيش فى ظهره ضد شعب أعزل..فهكذا كان الحال يوم وقف الجيش السورى مع بشار الأسد فتحولت سوريا إلى بحر من الدماء..

أما فى حالة أردوغان، الحاكم الحالم بإعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية..كان السبيل الوحيد هو إيجاد طريقة لدخول الاتحاد الأوروبى..مما سيسمح له بالاستفادة اقتصاديا وسياسيا بغض النظر عما سيقدمه للاتحاد أو حتى لشعبه.

وأصبحت الخطوة الأهم هى محو صورة المذبحة التى ارتكبها الأتراك قبل مائة عام تقريبًا والتى كانت مصدر قلق كبيرًا للنظام الأردوغانى، مما دعا إلى الكشف مؤخرًا، عن العديد من الشواهد على تلك الإبادة، والتى من شأنها أن تدفع العديد من الدول الاعتراف بهذه المذابح، وعمليات القتل الممنهجة والترحيل القسرى، ما يضع الكثير من العراقيل فى طريق انضمام تركيا للاتحاد الأوروبى..تلك المذبحة التى تتراوح عدد ضحاياها ما بين 1 مليون و1.5 مليون نسمة!.

ونظرا لأن التغيير كان أساس المصلحة الأردوغانية، فقد ألغيت عقوبة الإعدام بشكل كامل عام 2004، بعد عامين من تولى حزب العدالة والتنمية، حيث كان إلغاء العقوبة شرطا مسبقا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي!

واليوم يتبدل الحال وتعود تركيا إلى طرح مسألة إعادة عقوبة الإعدام للتخلص من معارضى أردوغان..مما سيثير نقاشات طويلة سواء داخل تركيا أو خارجها، لاسيما أن أعداد المعتقلين المتورطين بالانقلاب بالآلاف، مما يعنى أنها ستكون "مذبحة جماعية" وستقض مضجع الديمقراطية فى البلاد.

وسواء كان ما حدث من الجيش التركى هو انتفاضة حقيقية للانقلاب على ديكتاتور..أو حتى مسرحية هزلية أعطت لأردوغان الذريعة للإطاحة بضباط الجيش ورجال القضاء بهذا المنظر المُهين.. وعلى الرغم من أن محاولات الانقلاب فى تركيا شىء تكرر مرارا على مر تاريخها الطويل..إلا أن هذه المحاولة سوف تقلب الموازين فى المنطقة..وسوف تغير وجه تركيا للأبد..

فبعد سلسلة من الاعتقالات طالت نحو 6000 شخص قيل أنهم متورطون فى الانقلاب، انتشرت صور صادمة لمعتقلين وهم شبه عراة، لتتوالى صور صادمة أخرى، اعتبرها النشطاء فى المجتمع المدنى بأنها انتهاك للحريات وحقوق الإنسان.. وصمت عنها المجتمع الخارجى المتحضر الذى أقام الدنيا ولم يقعدها كلما تم التعرض لأى تجاوز فى مصر..تلك التجاوزات التى لا تقارن بأى حال من الأحوال بمجزرة أردوغان لضباط جيشه!

وقع أردوغان فى خطأ التقسيم.. فاستعان بالشرطة للإطاحة بالجيش..ليحدث انقساما أعمق ما بين مؤيديه ومعارضيه..وبين مؤسسات الدولة التى يعنى تماسكها صمود الدول.

ومن المؤكد أن تلك الانتفاضة لو شارك بها الأكراد لأصبح الوضع مختلفا!

أعتقد أن الانقلاب على أردوغان آت لا محال، حتى وإن فشل هذه المرة، فالشعب انقسم والأمر لن يعود إلى ما كان عليه سالفا.

أردوغان رجل قام بإنجازات حقيقية فى تركيا كان من الممكن أن تجعله متربعا على عرش القلوب طويلا إلا أن إرهابه لشعبه وديكتاتوريته قذفوا به إلى هوة التاريخ.

وتبقى الحقيقة الأكيدة.. أن الإرهاب الذى يمارسه الحكام هو الوقود دوما لاشتعال الأوطان وسقوط الطُغاة من فوق صفحات التاريخ المُشرفة.