د. نصار عبدالله يكتب: فاروق شوشة «1»

مقالات الرأي



يوم الجمعة الماضى طويت آخر صفحة من كتاب الذكريات الذى نسجت سطوره على مدى ما يزيد على أربعين عاما، هى عمر الصداقة التى ربطت بينى وبين فاروق شوشة، والتى بدأت فى منتصف سبعينيات القرن الماضى أو قبيل ذلك بقليل، تحديدا عندما كنت أتولى إعداد وتقديم ندوات الموسم الثقافى لجمعية الأدباء والتى كانت تعقد بدار الأدباء «10 شارع قصر العينى».. أما المناسبة التى جعلتنى أتعرف عليه معرفة شخصية بعد أن كانت معرفتى به تقتصر على كونى مستمعا معجبا ومتابعا لبرنامجه الجميل: لغتنا الجميلة.. المناسبة كانت هى اعتزام جمعية الأدباء عقد ندوة لمناقشة آخر دواوينه الشعرية إذ ذاك: لؤلؤة فى القلب ، ويومها قمت بالاتصال به للاتفاق معه على أسماء النقاد الذين سيشاركون فى المناقشة، وطرحت عليه كعادتى مع المبدعين الذين ستناقش أعمالهم قائمة بالأسماء التى كنت قد رشحتها بصورة مبدئية ومن بينها أستاذ بكلية دار العلوم كان قد سبق له نشر دراسة بالفعل عن الديوان، وفوجئت به يرحب ترحيبا شديدا بسائر النقاد الواردة أسماؤهم فى القائمة ما عدا ذلك الأستاذ الجامعى بالذات!. كان اعتراض المبدعين عادة على نقاد بعينهم أمرا مألوفا لدى، وكثيرا ما كنت آخذه فى الحسبان عندما كنت أقتنع بوجاهة المبررات التى يبنى عليها المبدع اعتراضه، والتى كانت فى الغالب الأعم تدور حول أن بعض النقاد عدوانيون بشكل مفرط.. غير أن اعتراض فاروق شوشة كان فريدا من نوعه! قال لى: هذا الناقد بالذات سوف يمتدحنى ويفرط فى مديحى دون أن أتعلم منه شيئا مفيدا.. أنا أفضل أن يشتمنى ناقد وأتعلم منه.. هات لى واحدا من هذا الصنف الذى يعلم حتى لو شتم.. سوف يعلمنى أنا أولا ويعلم جمهور الحاضرين ثانيا.. قلت له : ويعلمنى أنا أيضا.. فأنا محب لهذا الصنف الذى تطلبه وهو متوافر والحمد لله.. قال لى: إذن على بركة الله.. وقد انعقدت الندوة فى موعدها، حيث دعوت إلى المشاركة ناقدا كبيرا عرف بأنه قادر دائما على أن يعلم علما حقيقيا وأن يقدم رأيه بشكل مكتمل دون أن يشتم ودون أن تصدر منه كلمة جارحة، حتى وهو يتكلم عما يرى أنه لا يتوافر له الحد الأدنى من مقومات الإبداع! ذلك هو الأستاذ الدكتور عزالدين إسماعيل الذى كان ينفرد بين النقاد بأنه ذو حساسية شعرية عالية، ربما لأنه شاعر فى الأصل، لكنه فى الوقت ذاته يمتلك من الحساسية النقدية ما جعله يتوقف عن كتابة الشعر ويقرر عدم المضى فيه! وقد انعقدت الندوة فى موعدها، وتركت فى نفوس الحاضرين فيما أتصور أثرا طيبا لا أدل عليه من أننى بعدها بعشرين عاما تقريبا التقيت بطريق المصادفة أحد الرواد الدائمين فى ندوة نجيب محفوظ، حيث أخبرنى بأنه ما زال يحتفظ بشريط كاسيت عليه تسجيل صوتى للندوة التى تكلم فيها عزالدين إسماعيل عن ديوان فاروق شوشة، قال لى إنه عادة ما يسجل ندوات جمعية الأدباء وغيرها من الندوات الثقافية، لكنه كثيرا ما يمسح ما قام بتسجيله لكى يستخدم نفس الكاسيت فى تسجيل ما هو أكثر أهمية!، أما تلك الندوة بالذات فقد شعر بأنها ذات أهمية خاصة، ومن ثم ولشدة حرصه عليها قد نسخ منها نسخة أخرى (استبن) ضمانا لعدم ضياعها.. لا أظن أن هناك شهادة على نجاح ندوة أكثر من هذا، كما أوقن فى الوقت ذاته أن جانبا كبيرا من النجاح إن لم يكن الجانب الأكبر يرجع إلى طبيعة الضيف وإلى أدائه الجميل وهو يلقى مختارات انتقاها من: اللؤلؤة التى فى القلب قبل أن يبدأ الناقد فى التنقيب حول اللؤلؤة، وللحديث بقية..