د. نصار عبدالله يكتب: فاروق شوشة (4)

مقالات الرأي



من السجايا الحميدة لفاروق شوشة أنه لم يكن يتوانى عن تلبية أى دعوة تصل إليه من أى إقليم من أقاليم مصر، لكى يستمع إليه جمهور الإقليم ويتحاور معه بشكل مباشر، ومن خلال الحوار كان دائما يبث القيم التنويرية التى يحملها ويؤمن بها، ويبث فى الوقت ذاته عشقه الشديد للجذور التى يرتوى منها الإبداع العربى المعاصر، وهو نوع من العشق عندما يكون قويا ، فإنه يكون معديا، وهكذا فإن فاروق شوشة كان كثيرا ما ينجح فى نقل هذه العدوى إلى عدد لا بأس به فى كل مكان يزوره! فبالإضافة إلى الندوة التى عقدها له نادى هيئة التدريس بجامعة أسيوط والتى تكلمت عنها فى حلقة سابقة تكررت بعد ذلك زياراته لها.. مرة بدعوة من قصر الثقافة، وأخرى من المحافظة، وثالثة من كلية الآداب، كما تكررت كذلك زياراته لسوهاج حيث عقد بها أكثر من ندوة فى الجامعة وفى قصر الثقافة وفى نادى الأدب بالحويتى (حيث كان مقره فى ذلك الوقت)..وفى منتصف التسعينيات من القرن الماضى أتيحت لى فرصة نادرة لأن أقترب منه أكثر عندما قضينا أسبوعا كاملا فى اليونان فى مهرجان كفافيس الذى تحيا فيه ذكرى الشاعر اليونانى السكندرى كوستانتين كفافيس والذى يدعى إليه كل من سبق له الحصول على جائزة كفافيس للشعر العربى وهى جائزة أنشأتها وزيرة الثقافة اليونانية الفنانة ميلينا ميركيورى عندما وصل الحزب اليسارى الذى تنتمى إليه إلى دفة الحكم، وبالمصادفة كان مستشار حملتها شاعرا ومثقفا يونانيا هو كوستيس موسكوف الذى تولى فيما بعد منصب الملحق الثقافى للسفارة اليونانية فى القاهرة وهو الذى أوحى إليها بفكرة تلك الجائزة توثيقا للروابط الثقافية بين مصر واليونان، فاقتنعت بها وأدخلتها إلى حيز التنفيذ، حيث كان يحصل على تلك الجائزة شاعران مصريان فى كل عام تختارهما بشكل سرى لجنة محايدة من الشعراء والنقاد المتخصصين، ولقد فوجئت بفوزى عام 1995، وكان الفائز الآخر فى ذلك العام هو صديقى الشاعر المعروف محمد سليمان، وتقرر سفرنا كلانا لحضور المهرجان لكنه اعتذر لظروف خاصة به، فسافرت فى صحبة من سبق لهم الفوز فى الأعوام السابقة، وكان فاروق شوشة واحدا منهم، ولقد كانت تلك الرحلة بالذات مناسبة لكى أرى مزايا فاروق شوشة الإنسانية والفنية والفكرية بشكل مجسم ، لماذا.. لأن أى لون لا يتضح إلا إذا كان إلى جواره اللون المفارق!، ولقد كانت تلك الرحلة حافلة بالألوان المتضادة، فبينما تجد الثقافة والتواضع والنبل لدى فاروق شوشة، تجد الغرور مجسما عند (س) من رفاق الرحلة وتجد الجهل الفادح (عند س1)، والأنانية والتعجرف عند (س2) والظل الثقيل عند (س3).. لا تجد الروح الصافية والصحبة الممتعة إلا عند القليلين، ولقد كان فاروق شوشة واحدا من هؤلاء، كثيرا ما تمنيت أثناء الرحلة لو أننى حذوت حذو صديقى محمد سليمان وفعلت مثلما فعل واعتذرت، لكن وجود أمثال فاروق شوشة كان يعزينى، ويشعرنى بأن الرحلة على المستوى الإنسانى لم تذهب هدرا، فلئن كنت قد عايشت عن قرب آيات من قبح مافى بعض النفوس البشرية، فإننى قد عايشت عن قرب أيضا أيات لما فى بعضها من الجمال، وفى المحصلة النهائية فإننى اعتبرت نفسى رابحا، ومن أثمن ما ربحته أننى عدت منها وقد ازدادت صلتى بمن هم من وجهة نظرى أكثر الرفاق نبلا وثقافة وفنا، ازدادت بهم عمقا، وأصبحت أواطر الصداقة بينى وبينهم أقوى وأشد، وعلى رأسهم كان فاروق شوشة.