تفسير الشعراوي للآية 280 من سورة البقرة

إسلاميات

الشيخ الشعراوي -
الشيخ الشعراوي - أرشيفية


{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)}.

و{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} حكم بأن للدائن رأس المال، ولكن هب أنّ المدين ذو عسرة، هنا قضية يثيرها بعض المستشرقين الذين يدعون أنهم درسوا العربية، لقد درسوها صناعة، ولكنها عزت عليهم ملكة؛ لأن اللغة ليست صناعة فقط، اللغة طبع، واللغة ملكة، اللغة وجدان، يقولون: إن القرآن يفوته بعض التقعيدات التي تقعدها لغته، فمثلا جاءوا بهذه الآية: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

قال بعض المستشرقين: نريد أن نبحث مع علماء القرآن عن خبر {كَانَ} في قوله: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ}، صحيح لا نجد خبر {كَانَ}، ولكن الملكة العربية ليست عنده؛ لأنه إذا كان قد درس العربية كان يجب أن يعرف أن {كَانَ} تحتاج إلى اسم وإلى خبر، اسم مرفوع وخبر منصوب وهذه هي التي يقال عنها كان الناقصة، كان يجب أن يفهم أيضا معها أنها قد تأتي تامة أي ليس لها خبر، وتكتفي بالمرفوع، وهذه تحتاج إلى شرح بسيط.

إن كل فعل من الأفعال يدل على حدث وزمن، وكلمة {كَانَ} إن سمعتها دلت على وجود وحدث مطلق لم تبين فيه الحالة التي عليها اسمها، كان مجتهدا؟ كان كسولا؟ مثلا فهي تدل على وجود شيء مطلق أي ليس له حالة، ومعنى ذلك أن {كَانَ} دلت على الزمن الوجودي المطلق أي على المعنى المجرد الناقص، والشيء المطلق لا يظهر المراد منه إلا إذا قيد، فإن أردت أن تدل على وجود مقيد ليتضح المعنى، ويظهر، فلابد أن تأتيها بخبر، كأن تقول: كان زيد مجتهدا، هنا وجد شيء خاص وهو اجتهاد زيد. إذن ف {كَانَ} هنا ناقصة تريد الخبر يكملها وليعطيها الوجود الخاص، فإذا لم يكن الأمر كذلك وأردنا الوجود فقط تكون {كَانَ} تامة أي تكتفي بمرفوعها فقط مثل أن تقول: عاد الغائب فكان الفرح أي وجد، أو أشرقت الشمس فكان النور، والشاعر يقول:
وكانت وليس الصبح فيها بأبيض *** وأضحت وليس الليل فيها بأسود

فقوله {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} أي فإن وجد ذو عسرة.. أي إن وجد إنسان ليس عنده قدرة على السداد، {فَنَظِرَةٌ} من الدائن {إلى مَيْسَرَةٍ} أي إلى أن يتيسر، ويكون رأس المال في هذه الحالة {قَرْضاً حَسَناً}، وكلما صبر عليه لحظة أعطاه الله عليها ثوابا.

ولنا أن نعرف أن ثواب القرض الحسن أكثر من ثواب الصدقة؛ لأن الصدقة حين تعطيها فقد قطعت أمل نفسك منها، ولا تشغل بها، وتأخذ ثوابا على ذلك دفعة واحدة، لكن القرض حين تعطيه فقلبك يكون متعلقا به، فكلما يكون التعلق به شديدا، ويهب عليك حب المال وتصبر فأنت تأخذ ثوابا. لذلك يجب أن تلحظ أن القرض حين يكون قرضا حسنا والمقترض معذور بحق؛ لأن فيه فرقاً بين معذور بحق، ومعذور بباطل، المعذور بحق هو الذي يحاول جاهدا أن يسدد دينه، ولكن الظروف تقف أمامه وتحول دون ذلك، أما المعذور بباطل فيجد عنده ما يسد دينه ولكنه يماطل في السداد ويبقى المال ينتفع به وهو بهذا ظالم.

ولذلك جرب نفسك، ستجد أن كل دين يشتغل به قلبك فاعلم أن صاحبه حرص على السداد ولم يسدد، وكل دين كان برداً وسلاماً على قلبك فاعلم أن صاحبه معذور بحق ولا يقدر أن يسدد، وربما استحييت أنت أن تمر عليه مخافة أن تحرجه بمجرد رؤيتك. وهؤلاء لا يطول بهم الدّيْنُ طويلا؛ لأن الرسول حكم في هذه القضية حكما، فقال صلى الله عليه وسلم: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله".

فما دام ساعة أخذها في نيته أن يؤدي فإن الله ييسر له سبيل الأداء، ومن أخذها يريد إتلافها، فالله لا ييسر له أن يسدد؛ لأنه لا يقدر على ترك المال يسدد به دينه وهذه حادثة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تفسر لنا هذا الحديث، فقد مات رجل عليه دين، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مدين؛ قال لأصحابه: صلوا على أخيكم.

إذن فهو لم يصل، ولكنه طلب من أصحابه أن يصلوا، لماذا لم يصل؟ لأنه قال قضية سابقة: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه) ما دام قد مات ولم يؤد إذن فقد كان في نيته أن يماطل، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع أصحابه من الصلاة عليه.

والرسول صلى الله عليه وسلم يأتي للمعسر ويعامله معاملة الأريحية الإيمانية فيقول: (من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله).

ومعنى (أنظر) أي أمهله وأخر أخذ الدين منه فلا يلاحقه، فلا يحبسه في دَيْنِه، فلا يطارده، وإن تسامى في اليقين الإيماني، يقول له: (اذهب، الله يعوض عليَّ وعليك) وتنتهي المسألة، ولذلك يقول الحق: {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} والثمرة هي حسن الجزاء من الله. فإما أن تنظر وتؤخر، وإما أن تتصدق ببعض الدين أو بكل الدين، وأنت حر في أن تفعل ما تشاء. فانظروا دقة الحق عند تصفية هذه القضية الاقتصادية التي كانت الشغل الشاغل للبيئة الجاهلية.

ولقد عرفنا مما تقدم أن الإسلام قد بنى العملية الاقتصادية على الرفد والعطاء، وتكلم الحق سبحانه وتعالى عنها في آيات النفقة التي سبقت من أول قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ}.

وتكلم طويلاً عن النفقة. والنفقة تشمل ما يكون مفروضاً عليك من زكاة، وما تتطوع به أنت. والمتطوع بشيء فوق ما فرض الله يعتبره سبحانه حقاً للفقير، ولكنه حق غير معلوم، ولذلك حينما تعرضنا إلى قوله سبحانه: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 15-17].

أيتطلب الإسلام منا ألا نهجع إلا قليلاً من الليل؟ لا، إن للمسلم أن يصلي العشاء وينام، ثم يقوم لصلاة الفجر، هذا ما يطلبه الإسلام. لكن الحق سبحانه هنا يتكلم عن المحسنين الذين دخلوا في مقام الإحسان مع الله. {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 15-18].

هل التشريع يلزم المؤمن أن يقوم بالسحر ليستغفر؟ لا، إن المسلم عليه أن يؤدي الفروض، ولكن إن كان المسلم يرغب في دخول مقام الإحسان فعليه أن يعرف الطريق: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18].

والكلام هنا في مقام الإحسان. ويضيف الحق عن أصحاب هذا المقام: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19].

إن الله سبحانه قد حدد في أموال من يدخل في مقام الإحسان حقا للسائل والمحروم، ولم يحدد الله قيمة هذا الحق أو لونه. هل هو معلوم أو غير معلوم. لكن حين تكلم الله عن المؤمنين قال سبحانه: {والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ والمحروم} [المعارج: 24-25].

وهكذا نجد في أموال صاحب مقام الإحسان حقا للسائل والمحروم، لكن في أموال صاحب الإيمان حق معلوم وهو الزكاة. ومقام الإحسان يعلو مقام الإيمان؛ لأن الحق في مال المؤمن معلوم، أما في مقام الإحسان فإن في مالهم حقا للإحسان إلى الفقير وإن لم يكن معلوما، أي لم يحدد.

وقد رأينا بعض الفقهاء قد اعتبر الزكاة ما دامت حقاً للفقير عند الغني فإن منع الغني ما قدره نصاب سرقة تُقطع يد الغني، لأنه أخذ حق الفقير. ونصاب السرقة ربع دينار ذهباً، فيبني الإسلام قضاياه الاجتماعية إما عل النفقة غير المفروضة وإما على النفقة المفروضة. فإذا ما شحّت نفوس الناس، ولم تستطيع أن تتبرع بالقدر الزائد على المفروض، وتمكن حب مالها في نفسها تمكنا قوياً بحيث لا تتنازل عنه يقول الله سبحانه لكل منهم: أنت لم تتنازل عن مالك، وأنا حرمت الربا، فكيف نلتقي لنضع للمجتمع أساساً سليماً؟ سنحتفظ لك بمالك ونمنع عنك فائدة الربا، وهكذا نلتقي في منتصف الطريق، لا أخذنا مالك، ولا أخذت من غيرك الزائد على هذا المال.

وشرح الحق سبحانه آية الديْن، وأخذت هذه الآية أطول حيز في حجم آيات القرآن، لماذا؟. لأن على الديْن هذا تُبنى قضايا المجتمع الاقتصادية عند من لا يجد مورداً مالياً يُسيّر به حركة حياته.

وحين وضع الحق آية الديْن لم يضعها وضعاً تقنينياً جافاً جامداً، وإنما وضعها وضعاً وجدانيا. أي مزج التقنين بالوجدان، مزج الحق جمود القانون بروح الإسلام، فلم يجعلها عملية جافة.

والمشرعون من البشر عندما يقننون فهم يضعون القانون جافاً، فمثال ذلك: من قتل يقتل، وغير ذلك. لكن الحق يقول غير ذلك حتى في أعنف قضايا الخلاف، وهي خلافات الدم، فقال سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178].

والحق سبحانه وتعالى قبل أن يأتي بآية الديْن، يقول: {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله...}.