بورسعيد تنسف دي ليسبس

منوعات

بوابة الفجر



تعامل أهالي مدينة «بورسعيد» مع تمثال «فردينان ديليسبس» استنادا إلي المثل الشعبي المصري الذي يقول «لا باحبك.. ولا قادر على بعدك».. ففي 22 ديسمبر 1956، وفي أعقاب انسحاب القوات البريطانية والفرنسية التي كانت تحتل المدينة تدفقت جموعهم في اتجاه اللسان الذي أقيم عليه التمثال عام 1899 داخل القناة، ليقوموا بنسفه بالديناميت، وكان مبررهم لهدم تمثال الرجل الذي دخل التاريخ باعتباره صاحب مشروع حفر قناة تربط بين ميناء بورسعيد على البحر الأبيض المتوسط، والسويس على البحر الأحمر
أن القناة التي حفرتها سواعد الفلاحيين المصريين  هي التي جلبت الكوارث إلى مصر، فأدت إلى الاحتلال البريطاني لها عام 1882 وفتحت باب التدخل الأوروبي في شؤونها، وتحولت إلى دولة داخل الدولة، وكان آخر ما جلبته من كوارث هو الإنذار البريطاني الفرنسي المشترك الذي وجهته الدولتان إلي كل من مصر وإسرائيل في 30 أكتوبر 1956، بالانسحاب عشرة كيلومترات بعيدا عن ضفتي القناة، لضمان حرية الملاحة فيها باعتبارها ممرا دوليا.. فلما رفضته قامت جيوشهما باحتلال المدينة التي خاضت مقاومة باسلة ضد المحتلين، انتهت بجلائهم عنها وبتحطيم تمثال الرجل الذي حفر القناة، باعتباره صاحب الكارثة التي تسمى قناة السويس! 
وكان من بين الكوارث الوطنية التي نسبت إلى «ديليسبس» آنذاك _ استنادا إلي مرويات التاريخ الشعبي _ ، أنه ضحك على الوالي «محمد سعيد باشا» ـ ابن محمد علي الكبير ـ وحصل منه على امتياز حفر قناة السويس، بتقديم أطباق فاخرة من المكرونة التي كان الوالي شغوفا بها، وأنه اخطأ في تقدير بعض المصاعب التي قد يواجهها تنفيذ المشروع مما أدى إلى وفاة ما يزيد على مائة ألف من العمال المصريين الذين قاموا بحفرها تحت الانهيارات الرملية، فضلا عن آلاف آخرين منهم قضت عليهم الأوبئة، وأنه كان يتعامل معهم بأقسى أنواع السخرة، ويمنحهم أجورا تافهة مقابل عمل بالغ المشقة
وهو الذي منع الزعيم «أحمد عرابي» من تنفيذ قراره بردم القناة، ليحول بين جيش الاحتلال البريطاني وبين استخدامها لغزو مصر عام 1882. ووعده بألا تستخدم القناة لأي عمليات عسكرية ضد مصر، ثم عجز عن تنفيذ وعده. وقد لا يعرف ـ أو يتذكر ـ كثيرون أن «ديليسبس» لم يدرس الهندسة بل الحقوق، ولم يعمل بالمحاماة ولكن بالدبلوماسية. وأن الذي أوحى إليه بفكرة إنشاء قناة بحرية تربط بين البحرين الأحمر والأبيض، كانت مجموعة من مهندسي الري «السان سيمونيين» الفرنسيين ذوي الاتجاهات الراديكالية، الذين استدعاهم «محمد علي » ليساهموا في إقامة مشاريع الري على النيل، فاستقروا في مصر، وتعرف إليهم حين كان يعمل قنصلا لفرنسا في الإسكندرية، وأن الفكرة في أساسها كانت فكرة اقتصادية، تواكبت مع التوسع في إنشاء السفن التي تسير بالبخار، ومع البحث عن طريق بحرية أقصر لتسهيل انتقال التجارة الدولية بعيدا عن طريق رأس الرجاء الصالح، وأنها لم تلق حماسا في البداية من الدول الأوروبية بسبب ما بينها من منافسات، 
و من المعروف أن ديليسبس بذل مجهودات ضخمة لإقناع كل الأطراف بالمساهمة في مشروعه فترددت جميعها، بل وبدأت تضع العقبات في طريقه وأنه اضطر إلى اللجوء إلي فتح اكتتاب دولي بين مواطني الدول الأوروبية حتى يستطيع تمويل المشروع، وبدأ تنفيذه قبل تغطية الاكتتاب.. ولم يحتفظ لنفسه بنسبة من الأسهم. وبعد خمسة عشر عاما من حصوله على امتياز حفر قناة السويس افتتحت القناة عام 1869، وبعد عشر سنوات أخرى كان ديليسبس يسافر إلى أمريكا الجنوبية، ليدعو لمشروع جديد، هو حفر قناة بنما لتربط بين المحيط الأطلسي، والمحيط الهادي، ولكن المشروع تعرض لصعوبات جمة. 
اوفي عام 1889 أقامت شركة قناة السويس تمثالا له، في مدخل القناة وظل قائما في مكانه إلى أن نسفه أهالي بورسعيد في ديسمبر 1956. وظلت أجزاء التمثال المحطمة ملقاة أمام قاعدته لسنوات طويلة، إلى أن نقلت إلى مخازن الترسانة البحرية بالمدينة، حيث لا تزال هناك حتى الآن. 
وفي أواخر تسعينيات القرن الماضي، بدأت أصوات خافتة تدعو إلى إعادة ترميم التمثال المحطم، وإعادة إقامته على قاعدته باعتباره جزءا من التاريخ.. ولكن أهالي «بورسعيد» اعترضوا، وقالوا إن «ديليسبس» ارتكب جرائم في حق بلدهم ووطنهم، فتراجعت الدعوة، لتعود فتطل برأسها بين الحين والآخر، وفي كل مرة كان أهالي المدينة يعترضون، ويقولون بأن التمثال إذا كان جزءا من التاريخ، فإن تحطيمه أيضا جزء من التاريخ.. ونبههم البعض إلي أن المدينة ـ التي كانت لسنوات طويلة وممتدة مركزا لإدارة شركة قناة السويس ـ يمكن أن تكون منطقة جذب للسياح الأوروبيين وخاصة الفرنسيين منهم إذا جرى الاهتمام بما تضمه من آثار تلك المرحلة، وخاصة تمثال «ديليسبس» لكن ذلك لم يقنعهم بتقبل فكرة إعادة إقامة التمثال مرة أخرى علي قاعدته في مدخل القناة! واقترح بعضهم بديلا لذلك أن يقام تمثال للرئيس «عبد الناصر» على القاعدة التي لا تزال قائمة، باعتباره الزعيم الذي أمم القناة، أو أن يقام عليها تمثال للفلاح المصري الذي حفر القناة. ولم تتوقف محاولات الجهات المعنية بالسياحة والآثار ومعها شركة قناة السويس للبحث عن صيغة ترضي كل الأطراف، وتحل مشكلة تمثال الرجل الذي ارتكب خطيئة حفر قناة السويس. وكان آخرها هو التفكير في إنشاء متحف كبير في مدينة الإسماعيلية - ثالثة المدن الكبري التي أنشئت علي ضفاف القناة - يضم آثار كفاح أهالي المنطقة في حفرها وإنشائها ومن بينها تمثال «ديليسبس».. وما كادت الفكرة تطرح للبحث، حتى غضب أهالي «بورسعيد»، وقالوا إن تراث المدينة ملك لأبنائها وللأجيال القادمة من بعدهم، لا يملك أحد أن يتنازل عنه أو أن يغتصبه لنفسه، بما في ذلك تمثال «ديليسبس» الذي هو جزء من هذا التراث لا يجوز نقله إلي خارج المحافظة، ليؤكدوا بذلك تمسكهم بالمثل الشعبي الذي يقول «لا باحبك.. ولا قادر على بعدك»!