تفسير الشعراوي للآية 56 من سورة النساء

إسلاميات

الشيخ محمد متولي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)}.

و(نصليهم) من الاصطلاء، قد يقول قائل: ما دام يصلي النار وكلنا يعرف أن نار الدنيا حين تحرق شيئاً ينتهي إلى عدم، وحين ينتهي إلى عدم إذن فلا يوجد ألم! ونقول: لتنتبه إلى أن الحق سبحانه وتعالى يقول في هذا الأمر {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب}.. إذن فالعذاب ليس كنار الدنيا، لأن نار الدنيا تحرق وتنتهي المسألة، أما نار الآخرة فإنها عذاب سرمدي دائم مكرر {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب}.. فإذا ما حرّقت الجلود فإن جلوداً أخرى ستأتي، أهي عين الأولى أم غيرها؟ وحتى أوضح ذلك: أنت عندما يكون عندك خاتم مثلاً، ثم تقول: أنا صنعت من الخاتم خاتماً آخر، فالمادة واحدة أيضاً، فهل التعذيب للجلود أو للأعضاء؟ إن العذاب دائماً للنفس الواعية، بدليل أن الإنسان قد يصيبه ورم فيه بعض الصديد (دُمّل) يتعبه ولا يقدر على ألمه.. وبعد ذلك يغفل فينام، بمجرد أن ينام فلا ألم. لكن عندما يستيقظ يتألم من جديد.

إن فالألم ليس للعضو بل للنفس الواعية، بدليل أننا عندما ارتقينا في الطب، قلنا إن النفس الواعية نستطيع أن نخدرها بحيث يحدث الألم ولا تشعر به، ويفتح (الدُّمل) بالمشرط ولا يحس صاحبه بأي ألم. وهكذا تجد أن الجلود والأعضاء ليس لها شأن بالعذاب، إنما هي موصلة للمعذب، والمعذَّب هي النفس الواعية.. بدليل أنها ستشهد علينا يوم القيامة.. تشهد الجلود والجوارح، وستكون آلة لتوصيل العذاب.. ومسرورة لأنها توصل لهم العذاب.
إنه نظام إلهي فلا تتعجبوا من القرآن، فإن العلم كلّما تقدم هدانا إلى شيء من آيات الله في الكون. أنتم- الآن- تخدرون النفس الواعية وتشقُّون الجسد بالمشارط كما يحلو لكم فلا يحدث له ألم، وعرفتم أن الألم ليس للعضو، إنما الألم للنفس الواعية، إذن فكل الجوارح هي آلات توصِّل الألم للنفس الواعية، وتكون مسرورة؛ لأن النفس الواعية تعذب، هذه يشبهونها- مثلا- بواحد عنده (حكة) في جلده، فيهرش، والهرش يسيل دمه فيكون مستلذاً.

إذن فقوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} أي أن الجلود تبدل وتنشأ جلود أخرى من نفس مادتها توصل العذاب للنفس الواعية، وهكذا.

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب}. ونحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى أنزل كتاباً هو القرآن، وجعله معجزة ومنهجا، وهذه هي الميزة التي امتاز بها الإسلام. فمنهج الإسلام هو عين المعجزة، وكل رسول من الرسل كان منهجه شيئاً ومعجزته كانت شيئا آخر.

إن سيدنا موسى منهجه التوارة ومعجزته: العصا، وسيدنا عيسى منهجه: الإنجيل، ومعجزته: إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، لكن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت القرآن؛ لأن دينه سيكون الامتداد النهائي لآخر الدنيا، ولذلك جعل الله منهجه هو عين معجزته، لتكون المعجزة دليلاً على صدق المنهج في أي وقت، ولا يستطيع واحد من أتباع أي نبي سابق على رسول الله أن يقول: إن معجزة الرسول الذي أتبعه هي منهجه؛ لأن معجزات الرسل السابقين على رسول الله كانت عمليات كونية انتهت مثل عود كبريت احترق، فمن رآه رآه وانتهى، لكن المسلم يستطيع أن يقف ويعلن بملء فيه: إنَّ محمداً رسول الله وصادق، وتلك معجزته.

فمعجزة محمد صلى الله عليه وسلم باقية بقاءً أبدياً، ومتصلة به أبداً. أما معجزة كل رسول سبق رسول الله فقد آدت مهمتها لمن رآها وانتهت، وانفصلت معجزة كل رسول سابق على رسول الله عن منهجه.

والمنهج القرآني فيه أحكام، والأحكام معناها؛ افعل كذا، ولا تفعل كذا. وهي واضحة كل الوضوح منذ أن أنزل الله القرآن على رسوله وحتى تقوم الساعة. ومن فعل مطلوب الأحكام يثاب، ومن لم يفعله يعاقب. وكل الناس سواسية في مطلوب الأحكام إلى أن تقوم الساعة.

أما الآيات الله الكونية التي لا تتأثر.. فأي فائدة للإنسان إن عرفها أو لم يعرفها: فقد طمرها الله وسترها في القرآن مع إشارة إليها، لأن العقل المعاصر لنزول الكتاب لم يكن قادرا على استيعابها في زمن الرسالة. ولو أن القرآن جاء بآية واضحة تقول: إن الأرض كروية وتدور، بالله ماذا كان المعاصرون لرسول الله يقولون؟ إن بعضاً من البشر الآن يكذبون ذلك، فما بالنا بالبشر المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لو قال لهم رسول الله ذلك لانصرفوا عن اتباع ما جاء به.

لقد كانوا يستفيدون من كروية الأرض، مثلما يستفيد منها الفلاح أو البدوي، ومثلما يستفيد الناس الآن الذين لم يدرسوا الكهرباء برؤية التليفزيون وضوء المصباح الكهربائي وغير ذلك من الاستخدامات، دون معرفة علمية بتفاصيل ذلك، إنّ الشمس تسطع على الدنيا فيتبخر الماء من الأنهار والمحيطات والبحار ليصير سحاباً، ثم ينزل المطر من السحاب. وكل هذه الآيات الكونية لم يعط الله أسرارها إلا بقدر ما تتسع العقول، وترك في كتابه ما يدل على ما يمكن أن تنتهي إليه العقول الطموحة بالبحث العلمي.

وعندما نتعرف نحن- المسلمين- على اكتشاف علمي جديد في الكون، نقول: إن القرآن قد أشار له، لكن قبل ذلك لا يصح أن نقول ذلك حتى لا يكذب الناس هذا الكتاب المعجز، فسبحانه القائل: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39].

لو أن القرآن قال: إن كل شيء في الوجود يتكاثر، وفيه موجب وفيه سالب، ذكر وأنثى، أكانوا يصدقون ذلك؟.
لا؛ لأنهم كانوا لا يعرفون الذكر والأنثى إلا في الرجل والمرأة، ويعرفون ذلك في الحيوانات؛ وأيضاً في بعض النباتات مثل النخل، لكن هناك نباتات كثيرة لا يعرفون حكاية التكاثر فيها، ومثال ذلك القمح الذي نزرعه ونأكله، وكذلك الذرة، لم يكونوا عارفين بأن عنصر الذكورة يوجد في (الشواشي) العليا في كوز الذرة وأن الهواء يضرب تلك الشواشي فتنزل منها حبوب اللقاح فيخرج الحب، ولذلك نجد الزّارع الذكي هو الذي يفتح (كوز الذرة) من أعلاه قليلاً حتى يتيح لحبوب اللقاح أن تصل إلى موقعها. وقد يفتح الفلاح أحد (كيزان الذرة) فيجد حبة ميتة وسط الحبوب المتراصة ويكشف أنها حبة ليس لها خيط أي لم تتصل بحبوب اللقاح وهو ما يقولون عنه في الريف (سنة عجوز).

إذن فكل تكاثر له ذكورة وأنوثة، ولذلك يقول ربنا: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36].

وكنا نعرف الأزواج في الأنفس، ثم عرفناها في النبات، وجاء الحق ب {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} لِتُدخل كل شيء، وتكشف الموجب والسالب في الكهرباء، وصرنا نعرف أن كل كائن فيه ذكر وأنثى، وكلما تقدم العلم فهو يشرح الآيات الكونية.

ومن رحمة الحق سبحانه بعقول الأمة المكلَّفة برسالة محمد لم يشأ أن يجعل نواميسه في الكون واضحة صريحة حتى لا تقف العقول فيها وتعجز عن فهمها، وخاصة أن الكتاب واجه أمّة أمّيَّة؛ ليست لها ثقافة. وهب أنه واجه العالم المعاصر، إن هناك قضايا في الكون لا يعلمها العالم المعاصر، فلو أن القرآن تعرض لها بصراحة لكانت سبباً من الأسباب التي تصرف الناس عن الكتاب. والقرآن جاء كتاب منهج، والمعجزة أمر جاء لتأييد المنهج، فلم يشأ أن يجعل من المعجزة ما يعوق عن المنهج، لكنه ترك في الكون طموحات للعقل المخلوق لله والمادة الكونية المخلوقة لله، وكل يوم يكتشف العقل البشري أشياء، وهذا الاكتشاف لا يأتي من فراغ، بل يأتي من أشياء موجودة.

إذن فلو رددت أدق أقضية العلم التي يصل إليها العقل المعاصر، ونسبتها في الكون لرجعت إلى الأمر البديهي، فلا يوجد صاحب عقل ابتكر أو جاء بحاجة جديدة، إنما هو أعمل عقله في موجود فاستنبط من مقدمات الموجود قضية معدومة، ثم أصبحت القضية المعدومة مقدمة معلومة ليستنبط منها من يجيء بعد ذلك. ولذلك فالعلماء عادة قوم يغلبهم طابع التهذيب عندما يقولون: اكتشفنا الأمر الفلاني، يعني كأنه كان موجوداً.

إن الحق سبحانه وتعالى يعطي لنا فكرة تقرب لنا الفهم، فنحن عندما كنا نتعلم الهندسة مثلاً؛ عرفنا أن الهندسة مكونة من نظريات، تبدأ من نظرية (واحد)، وتنتهي إلى ما لا نهاية، وحين جاء لنا مدرس ليبرهن لنا على نظرية (مائة)، استخدم في البرهان على ذلك النظرية التسع والتسعين، وعندما كان يبرهن على النظرية (التسع والتسعين) استعمل ما قبلها.

إذن فكل برهان على نظرية يستند إلى ما قبلها، والعقل الواعي المفكر المستنبط هو الذي يرتب المقدمات ويستخلص منها النتائج. وكل شيء في الكون يشترك فيه كل الناس. لكن العقل الذي يرتب ويستنبط يخيل إليه وإلى الناس أنه جاء بجديد، وهو لم يأت بجديد. بل ولَّد من الموجود جديداً، مثال ذلك الطفل عندما يولد من أبويه، هل هما جاءا به من عدم؟ لا، بل جاء الولد من تزاوج، وعندما نسلسل الأمر نصل إلى آدم، فمن الذي جاء بآدم؟. إنه الله.

إذن فالبديهيات التي في الكون هي خميرة كل علم تقدمي وهي من صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعاً، وكل نظرية مهما كانت معقدة في الكون منشؤها من الأمر البديهي، مثال ذلك البخار؛ عندما اكتشفوه وقبل أن يسيروا به الآلات ماذا حدث؟. كان هناك من يجلس فالتفت فوجد الإناء الذي به الماء يغلي ثم وجد غطاء الإناء يرتفع وينخفض، وعندما تعرف على السرّ، اكتشف أن كل بخار يستطيع أن يعطي. قوة دافعة، وبذلك بدأ عصر البخار. إذن فهو ذكي، وقد أخذ اكتشافه من بديهية موجودة في الكون، فإياك أن تغتر وتقول: إن العقل هو الذي اخترع، ولكن العقل عمل بالجهد في مطمورات الله في الوجود، ورتب ورتب ثم أخرج الاكتشاف.

لذلك فعندما يبتكر العقل البشري شيئاً جديداً نقول له: أنت لم تبتكر، بل اكتشفت فقط، والحق سبحانه وتعالى يترك هذه العملية في الوجود. ويقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} [فصلت: 53].

والبشرية عندما تكتشف شيئاً جديداً، نقول لهم: القرآن مسّها وجاء بها، فيقولون: عجباً هل فعل القرآن ذلك منذ أربعة عشر قرناً، على الرغم من أنه نزل ليخاطب أمة أمية، وجاء على لسان رسول أميّ. ونقول: نعم.

والآية التي نحن بصددها فيها هذا: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء: 56].

والجلود والأحاسيس شرحناها من قبل، ونظرية (الحسّ)- كما نعرف- شغلت العلماء الماديين، وأرادوا أن يعرفوا كيف نحسّ؟ منهم من قال: نحن نحسّ بالمخ. نقول لهم: لكن هناك مسائل لا تصل للمخ ونحس بها، بدليل أنه عندما يأتي واحد أمام عيني ويوجه أصبعه ليفتحها ويثقبها يصل أصبعه أغلق عيني أي أن شيئاً لم يصل للمخ حتى أحسّ. وبعض العلماء قال: إن الإحساس يتم عن طريق النخاع الشوكي والحركة العكسية، ثم انتهوا إلى أن الإحساس إنما ينشأ بشعيرات حسية منبطحة مع الجلد؛ بدليل أنك عندما تأخذ حقنة في العضل، فالحقنة فيها إبرة، ويكون الألم مثل لدغة البرغوث يحدث بمجرد ما تنفذ الإبرة من الجلد، وبعد ذلك لا تحس.

إذن فمركز الإحساس في الإنسان هو الشعيرات الحسية المنبطحة على الجلد، بدليل أن ربنا أوضح: أنه عندما يحترق الجلد يمتنع الإحساس، فأنا أبدل لهم الجلد ليستمر الإحساس: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} أي صارت محترقة احتراقاً تاما وتعطلت عن الإحساس بالألم، آتيهم بجلد آخر لأديم عليهم العذاب؛ لأنه هو الذي سيوصل للنفس الواعية فتتألم، إذن فالآية مسّت قضية علمية معملية، لو أن القرآن تعرض لها بصراحة وجاء بصورة في الإحساس تقول: يا بني آدم محلّ الإحساس عندكم الجلد، لما فهموا شيئاً. لكنه تركها لتنضج في العقول على مهل.

{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب}. فتكون علّة التبديل للجلود التي أحرقت بجلود جديدة كي يدوم العذاب ويذيل الحق الآية: {إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} والعزيز: هو الذي لا يُغلب ولا تَقدر أن تحتاط من أنه يهزمك أبداً، فقد يقول كافر: لقد تلذذنا بالمعصية مرة لمدة خمس دقائق، ومرة لمدة ساعتين فيما يضيرني أن يحترق جلدي وتنتهي المسألة!! نقول له: لا إن الذي يعذبك لا يُغلب فسوف يديم عليك العذاب بأن يبدل لك الجلد بجلد آخر، وسبحانه حكيم. فالمسألة ليست مسألة جبروت يستعمله، لا. هو يستعمل جبروته بعدالة.

وبعد أن جاء بالعذاب أو بالجزاء المناسب لمن رفضوا الإيمان، لم ينس المقابل؛ لكي يكون البيان للغايتين: غاية الملتزم وغاية المنحرف. ولذلك يقول الحق بعد ذلك: {والذين آمَنُواْ...}.