الهدى النبوى فى توديع الأحياء والأموات

إسلاميات

الهدى النبوى فى توديع
الهدى النبوى فى توديع الأحياء والأموات


في السنة الثامنة من الهجرة النبوية تم للمسلمين فتح مكة، وفي السنة التاسعة أقبلت الوفود تقر بالإسلام وتدخل فيه أو تعطي الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، ودانت جزيرة العرب بالإسلام، وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف كل رمضان عشراً، فاعتكف في السنة الأخيرة عشرين ليلة، وجبريل يعارضه القرآن مرة في رمضان، فعارضه في السنة الأخيرة مرتين .. كل هذه العلامات وغيرها أشارت إلى قرب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم أخذت طلائع ومظاهر توديع النبي صلى الله عليه وسلم للحياة والأحياء تظهر في عباراته وأفعاله،‏ فقال في حجة الوداع‏ في العام العاشر من الهجرة النبوية:‏ (خذوا مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) رواه النسائي وصححه الألباني. 

وفي رواية: (لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحُجُّ بعد حجتي هذه). قال النووي: "فيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته صلى الله عليه وسلم".

وفي السنة الحادية عشرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أُحُد، فصلي على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، فعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّىَ على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فَرَط (شفيع)، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها. قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر) رواه البخاري. 

قال ابن حجر: "الأحاديث الصحيحة دلت أن شهداء المعركة لا يُصَلَّى عليهم, أما هذا الحديث فكأنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم واستغفر لهم حين علم قرب أجله مودعاً لهم بذلك, كما ودع أهل البقيع بالاستغفار لهم"، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا) قال: "أي لا أخاف على مجموعكم، لأن الشرك قد وقع من بعض أمته بعده صلى الله عليه وسلم".

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم) يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد (مدفن أهل المدينة)) رواه مسلم، وفي رواية أنه قال صلى الله عليه وسلم: (فإن جبريل أتاني فقال إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قالت عائشة: يا رسول الله، كيف أقول لهم؟ قال: قولي: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون). 

قال ابن حجر: "فتوديعه صلى الله عليه وسلم للأحياء ظاهر، لأن سياق الأحاديث يشعر أن ذلك كان آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وأما توديعه للأموات فباستغفاره لأهل البقيع ودعائه لأهل أُحُد، وانقطاعه بجسده عن زيارتهم".

وداع النبي صلى الله عليه وسلم للأحياء والأموات ظهر فيه حبه وشفقته ورحمته بأصحابه وأمته، وحرصه على نفعهم ونصيحتهم والدعاء لهم، ولهذا صلى على شهداء أحد بعد ثماني سنوات من موتهم، وزار أهل البقيع ودعا لهم، وأوصى الأحياء ونصحهم، وأمرهم ونهاهم، فما ترك خيراً إلا دلهم عليه، ولا شراً إلا حذرهم منه، وذلك في حياته عامة وفي حجة الوداع وقبيل وفاته خاصة، وصدق الله تعالى القائل عنه صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.. [التوبة : 128]. قال ابن كثير في تفسيره: "وقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي: يَعِزُّ عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشقّ عليها، {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي: على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم"، وقال السعدي: "أي شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم، ولهذا كان حقّه مُقَدَمَاً على سائر حقوق الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به وتعظيمه وتعزيره وتوقيره".