نادر عبد النور يكتب: احنا الكفاتسة

مقالات الرأي

نادر عبد النور
نادر عبد النور


                                                               مشهد 1 

على طلاب الدين المسيحي مغادرة الفصل والتوجه إلى الحوش لحضور حصة الدين .. ينهض أربعة أو خمسة أطفال لحمل حقائبهم متوجهين –غالباً - إلى أبلة "مريم أو ماريان"، التي هي في الأصل معلمة  درسات اجتماعية أو علوم وبالطبع فهي إمرأة غير محجبة وربما ترتدي والعياذ بالله "جيب" وهو محور اهتمام عددًا غير قليل من طلاب "المرحضة" الإعدادية، إضافة إلى عدد أخر من المدرسين الذكور.

تنهض الأخيرة لتأدية الواجب المقدس، المتمثل في ضرورة استكمال الحد الأدنى من عدد الحصص حتى تستطيع أن تحصل على راتبها كاملًا، فيما يظل بقية الطلبة في الفصل يحسدون أقرانهم المسيحيون على الخروج من رحم الفصل والتوجه إلى الحوش بينما تدخل -غالباً - أبلة "سعاد أو سهير" التي هي بالقطع مدرسة لغة عربية لتقوم أيضا بنفس الدور المقدس الذي تقوم به مريم أو ماريان.

وبعيدًا عما دار في الحوش أو الفصل فإن القاسم المشترك هو وقوف كلا المعلمتين في أنكسار شديد أمام الصراف، في أخر كل شهر للحصول على  قيمة المادة العلمية التي حقنتهن في أجساد لم تدرك حقيقة ما يدور حولهم إلا بعد فوات الأون ثم تهرع كلتاهما إلى الدادة- غالبًا- "أم صباح أو أم مصطفى" لسداد أقساط الجمعية أو أقساط الملابس التي تبيعها.

مشهد 2 
جرس يدق في رتابة متصلة لتعلن المدرسة نهاية يوم من العقاب الدراسي، فينطلق جحافل التلاميذ خارج أسوار المدرسة في صخب حلو وتتشكل مجاميع الأصدقاء أصحاب الطريق المشترك، في رحلة العودة للديار.. وهنا يبادرني أحدهم بالسؤال: نادر هو أنا ينفع أجي معاك الكنيسة ليلة رأس السنة.. صوت أخر .. هو انتم بتطفوا النور ليلتها ليه.. أحدهم يلقي بكلمته: دي بتبقى "مليطة"، فيما يجزم الأخر في ثقة بوجود أنهار من الخمور في الكنيسة في هذه الليلة المباركة، لم أكن امتلك في عقلي الصغير إجابات لهذه الأسئلة التي-غالباً- لا يفهمهما من سألها، ومع ذلك فقد نفيت هذه التهم لمجرد شعوري بأنني أقف وراء قضبان الاتهام ولكن دفاعي الهزيل غير المستند على أسس أتى بسؤال أكثر تعقيدًا: هو صحيح انتم بتعبدوا ثلاثة ؟ سؤال يطرق عقلي للمرة الأولى في سنواتي العشر فعجزت حتى عن الرد.

لتستمر من بعد ذلك رحلة الأسئلة بصورة شبه يومية ولكنها كانت أكثر تطورًا كلما تقدم بنا العمر، والغريب في الأمر أنها أسئلة لم تكن تنتظر إجابات ولكنها كانت أسئلة خبرية تحمل في طياتها إجابات واثقة لا يشق لها غبار، فنحن المصابون بداء المسيحية جميعنا قد زنى القساوسة بأمهاتنا في ليلة الدخلة ولأننا نأكل لحم الخنزير فأننا لا نغار على نسائنا ولنا رائحة مميزة، وأيضًا لنا أنوف مجدوعة وحتى الألوان عرفت منهم أنه يوجد لون أسمه الأخضر المسيحي!! ناهيك عن كوننا "أربعة ريشة كفاتسة" و لنا عظام زرقاء بل بلغ بنا الشطط أنا استولينا على القناة الثانية في التلفزيون المصري لأنها لا تذيع الأذان، وهكذا استمر الحال من تهمة إلى أخرى.

مشهد 3
في رحاب الجامعة حيث تناثرت ثنائيات هنا وهناك، وأحاديث هامسة يتخللها ضجيج محبب إلى القلب فيما اجتمعت فئة إلى جوار مبنى الحمامات، يتضح من مظهرهم أن خانة الديانة في البطاقات الشخصية تشي بكونهم مسيحيين، ورغم حذف كل اسئلة واتهامات مراحل ما قبل الجامعة من قاموس اللقاءات المشتركة إلا أن هؤلاء، اختاروا أن ينعزلوا عن الجميع إلى جوار ذلك المبنى الذي اطلقوا عليه اسم "العميد"، محيطين انفسهم بهالة من الغموض حول أحاديثهم السرية.

وبالقطع كان هناك مسيحيون أخرون رافضون لمجتمع "العميد"، مؤكدين على رغبتهم بالاستمتاع إلى صحبة أصدقاء أخرون دون النظر إلى خانة الديانة بعدما جمع بينهم محبة صادقة، ولكن هذه المحبة كانت تدفع البعض إلى توجيه عبارات من طراز "رغم انك مسيحي لكن بجد بعتبرك أقرب من أخ"، "عارف أن عم جرجس هو أقرب صاحب لبابا" "هو انت ليه يا نادر مش عايز تسلم .. أنا بحبك والله وخايف عليك"، وهذه الجملة الأخيرة تحديدًا كانت أحد روافد السخرية في حياتي، فصديقي الأنتيم صاحب هذه الجملة  - ما زال هو الأقرب إلى قلبي-  كان يشاركني كل المبوقات والكوارث التي قمنا بها معًا في شبابنا الغابر دون أن يخشى عليّ أو على نفسه من عاقبة أفعالنا، وفي الحقيقة كانت هذه العبارات لا تغضبني بل لعها كانت تثير في نفسي غرورًا وبهجة لهذا الإطراء قبل أن استوعب انها عبارات تحمل هتك عرض لأفكاري و معتقداتي الإيمانية.

مشهد 4
رجل في أول العقد الخامس من العمر وقد استطالت ذقنه حتى منتصف صدره وهو يحمل والدي ويضعه في سيارته محاولًا إنقاذ حياته والتوجه به إلى أحد المستشفيات القريبة من المنزل، فيما أصاب الشلل جسدي لدرجة إني عجزت عن مساعدته في حمل ذلك الجسد الواهن في لحظاته الأخيرة.

كان هذا هو الشيخ محمود.. جارنا الذي يسكن في الجهة المقابلة لمنزلنا والذي هرع إلينا بمجرد سماعه لصرخات أمي.. كان الشيخ محمود عابس الوجه على الدوام لم يعرف وجهه الابتسامة، أو ربما كان يبتسم أحيانا ولكننا لا نراه فقد كان يتحاشى النظر إلينا وكنا نبادله نفس التصرف.. ولأنه شيخ ملتحي وزوجته منتقبة، فقد افترضت ضمنيًا أنه متعصب وكاره لنا معشر المسيحيين.. كانت أحكامي عليه مؤكدة وموثقة لا تقبل النقض.

حضر الطبيب وهو يبلغني أسفه لعدم تمكنه من إنقاذ والدي الذي فارقت روحه جسده.. رحل والدي وبقى الشيخ محمود، لست أدري ما الذي دعاني إلى النظر في قسمات وجهه فوجدت دمعة قد تسللت إلى عيناه، وأخذ يربت على كتفي, لم أتوقف كثيرًا حينها أمام هذا الرجل بعدما توقف عقلي عن إدراك ما يدور حولي ولكن في المساء وجدته قد حضر إلى قاعة العزاء داخل الكنيسة، وكانت هذه أخر مرة أرى فيها الشيخ محمود الذي ظل غائبًا عن ذهني لفترة طويلة حينما بادرني أحد الأقارب بالسؤال عن ذلك الشيخ الذي كان معنا في المستشفى، سؤاله جاء كالصاعقة على رأسي فأنا حتى ذلك الوقت لم أكن أعلم اسمه ولم أشكره على موقفه، اكتشفت أنني أيضا كنت عنصريًا جهولاً في أحكامي ولا اختلف عن كل هؤلاء الذين عانيت من أسئلتهم في الماضي!

مشهد 5
مئات المصلين في ميدان التحرير، وقد أحاط بهم مجموعة من الشباب المسيحيين.. أحضان وأغاني ملحمية فور الأعلان عن تنحي مبارك.. لحظات مسروقة بعيدًا عما يحمله الواقع الذي سرعان ما عاد يطل برأسه القبيحة على عتبات ماسبيرو، متسللاً بباقي جسده وهو يبحث عن "أخته كاميلا" إلى أن يستقر على عرشه في جمعة قندهار لتعود المياه ممتزجه بـ"الصرف الطائفي" لنشربها جميعا هانئين راضين بما كتبناه على أنفسنا إلى أن يشاء الله ويغير حقيقة ما في القلوب.

الخاتمة المنقوصة

ما بين هذه المشاهد الخمسة رحلة أربعون عامًا كللتها عيناي بما يحدث الأن في العريش، وربما تكون عيناي قد أخطأت في قراءة هذه الخاتمة فلست أرى داعش مجرد نبت شيطاني لا جذور له، بل أن داعش ومن هم على شاكلتها هم مجرد بذرة وجدت أرضًا خصبة مهيئة تمامًا لنموها، لا تختلف داعش عن ذلك القس المزعوم زكريا بطرس فالفكرة واحدة والمذهب واحد.. والله واحداً و ليس ثلاث.