ربيع جودة يكتب: أطفال السراديب

ركن القراء

ربيع جودة
ربيع جودة


هل سمعت هذا الصوت؟ ..  لا يا سيدي..  صوت ماذا ؟ قال الملك..  سمعت وكأن أحدهم يناديني!!  قال الوزير..  لم أسمع شيئاً يا مولاي..  قال الملك في حيرة..  هل غشيني النوم مثلاً؟  قال ربما يا مولاي لعل ذلك من طول السفر وفرط الضجر .  لو شئت أوقفنا الركب واسترحنا.. قال الملك..  إذاً أخبر الحراس أن يوقفو الركب..  سنبيت هنا الليلة.. أمرك يا مولاي.. 
وفي عجالة أوقف الركب..  ونصبت الخيام.. وأخذ الحراس مواقعهم..  وتقاسموا النوبات..  وسار الملك الي خيمته..  يفوح طيبه..  ويشرق نوره وترقبه الأعين حتي استقر علي كرسيه..  وقد بنيت فوق رأسه قباب الملك..  وجعلوا له عرشاً وبساطاً قد افترشه الخدم في لمح البصر..  وكأنهم يعدون مسرحاً..  أشار الملك إليهم ان ينصرفوا ويتركوه..  وقد شغلت رأسه بذاك الهمس..  الذي لم يستطع تفسيره..  وما إن استلقت رأسه..  وتصرفت ذراعه كيفما شاءت..  وسقطت من فورها حتي هب منتفضاً علي نداء آخر..  أكثر وضوحاً..  وأشد قرباً..  ففزع الي وزيره يناديه..  قال أمرك يا مولاي..  قال هل سمعتم هذا النداء..  قال الوزير..  أسألك بالله يا مولاي أن تسترح..  قال الملك لا والله ان هناك خطب..  قال الوزير هل لي أن أسأل عما تسمعه يا مولاي؟؟  قال الملك..  أسمع وكأن طفلاً يناديني..  قال لا تشغل بالك يا مولاي لعلها أضغاث أحلام..  قال لا أيها الوزير..  لا يزال الصوت في رأسي وإنه لقريب من هنا..  قال الوزير قريب؟؟  يا مولاي ان أقرب قرية علي مسيرة ليلة وضحاها..  قال لا والله انه لقريب من هنا...  ايها الوزير أرسل فريقاً من الحراس يبحث في الأرجاء حولنا..  قال أمرك سيدي..  انطلق الحراس..  يزفون الأرض.. لا تضرهم عتمة الليل ولا يغشاهم سواده..  حتي بلغوا سوراً علي مقربه.. له باب مفتوح..  فتعجب الوزير..  أليست تلك بحيرة..  قالوا نعم..  قال عجباً فما هذا السور؟  وأين البحيرة إذن؟؟ دخل الحراس علي حذر..  فوجدوا خلف السور قرية قد أمست خراباً ولم يعد بها موضع قدم بغير قتيل..  أو حريق..  يمضي الحراس علي أشلاء الموتي..  حتي بلغوا هدماً لبناء كان يبدوا عليه أثر الترف..  وإذا بصوت ينادي تحت أنقاضه..  فهب الحراس سريعاً يرفعون الحطام..  والصوت يقترب..  حتي انتهوا الي الصوت..  فوجدوه غلاماً يرقد في سرداب..  وهو عالق بسلسلة غليظة أحكم غلقها علي يديه ورجليه..  اقترب الحراس منه يحاولون إخراجه. فإذا به علي غير هيئة أطفالهم..  فملبسه غريب وهيئته غريبه.. وقبل أن يتسائلوا..  قال الغلام في ثقه..  أين سلطانكم ؟؟  قالوا وما أدراك بسلطاننا.. قال الغلام لن أتكلم إلا أمامه..  فأرادوا فك وثاقه..  فقال الغلام لن تستطيعوا..  أحضروا لي سلطانكم..  فتنازعوا أمرهم بينهم هل نحضر السلطان؟  وماذا لو كان فخاً.. ؟  قال الوزير..  نخبره وبعد ذلك نري..  فلما رجعوا  قال الملك أرسلوني إليه..  قال الوزير يا مولاي لا أري المكان آمناً..  لننتظر حتي الصباح..  قال الملك..  تدبروا أمركم سأذهب إليه الليلة..  أعد الحراس عدتهم وأحاطوا الملك..  حتي وصلوا الي السرداب..  فلما رآه الغلام بكي..  قال الملك..  فكوا أغلاله..  قال الغلام لن يستطيعون..  قال الملك من انت يا بني وكيف عرفتني وكيف وصلني صوتك..  وما هذه القرية.. قال الغلام..  أجبني أنت..  ما حجم دولتكم..  قال الملك..  متي وضعت الشمس كفها..  قال وكيف تقضي بينهم..  وقد اتسعت بقاعهم..  واختلفت أمصارهم..  قال نقيم العدل علي العادلين..  ونقضي بالحق والله خير الفاصلين..  وسيوفنا ترتل آيات السلام حتي إذا نطق السفيه أطعمناها لحمه الخبيث.. 
قال الغلام... وماذا عن علومكم قال الملك.. تركنا الرازي وبن سينا وبن الهيثم.. وغيرهم..  قال الغلام وهل خلفتم من بعدكم رجالاً يرعون هذا كله..  فسكت الملك برهة..  ثم قال ليتدبر كل ملك أمره..  قال الغلام..  أما والله ستحاسبون بنا حين لم تورثوا العدل..  كما ورثتم الملك..  تركتم علماً لم يتجاوز أكباد الكتب..  ولم تتركوا علماء يحملونه للناس..  وتركتم أرضاً ترامت أطرافها..  ولم تتركوا رجالاً يقيمون العدل فيها..  بل إنهم تقاسموها  كما تتقاسم الشاةَ الأكَلَه..  وفرح كلٌ بمقعده.. فاجلس ايها الملك علي قباب ملكك..  وعش ما شئت.. وليرثها ولدك عادلاً كان أو فاسقا..  فلسوف يأتي أعوام..  تذبح فيه الأطفال كالنعاج..  وتتسائل النساء عن فصيلة كانت تدعي الرجال..  نحن اطفال السراديب خلفتنا حروب آخر الزمان وتلك قريتنا تصرخ فيكم.. لا تتركوا لنا عدلاً دون أن تتركوا رجالاً تحمله.. 
بكي الملك واشتد بكاؤه..  والغلام يجر سلسته ويدخل السرداب مكبلاً.. والملك يناديه حتي انتهي عنه النظر..  عاد الملك الي خيمته..  وهو يبكي حتي اشرق الصبح علي هواء رطب يأتي من ناحية القريه فهب من فراشه يريد العودة الي موضع الغلام.. فإذا بها عادت كما كانت بحيره..  وضجيج الحراس يملأ الأرجاء يتناقلون قصة أطفال السراديب 
...