إيمان كمال تكتب: داليدا.. بنت من شبرا

مقالات الرأي



انتحر كل رجالها.. وعانت البوليميا.. ويوسف شاهين أعادها إلى مصر


«سامحونى.. لم أعد أحتمل الحياة» رسالة بنت شبرا «داليدا» الأخيرة قبل انتحارها.. نهاية تبدو 

أكثر منطقية لحياة مليئة بالصخب والنجاحات والانهزامات العاطفية المتتالية، فلا تكاد تخرج من انهزامها فى علاقة لتدخل فى علاقة جديدة تملؤها فى البداية بالأمل والحب والدفء وسرعان ما تنهار، داليدا بنت شبرا لأبوين مهاجرين من إيطاليا والتى عاشت طفولة معقدة سواء اتهامها بالقبح بسبب ارتدائها للنظارة وهى لا تزال فى سنوات عمرها الأولى وحتى اعتقال والدها وعودته متغيرًا تماما ليتوفى تاركها وشقيقها ووالدتها بعد سنوات من الشقاء قبل أن تخطو نحو العالمية والنجاح.

فالماضى يطاردها وحلم الاستقرار والحب والأمان أيضا، فحبيبها الأول بعد وصولها إلى باريس «أورلى» أخبرها بأن النجمات لا يحملن فالحمل يدمر أسطورتهن.. فكان ردها ليس لامرأة ترغب فى الأمومة، لتتزوجه وتقع داليدا بعد شهر من الزواج فى فخ الخيانة مع شاب آخر «رسام» يشعرها بأنوثتها ويعوضها عن كل ما افتقدته إلا أنه يختفى هو الآخر بعدما يكتشف حالة الانفصام التى تعيشها داليدا وحبها لهما سويا، فلم تتخلص بعد من حب زوجها الأولى ومنتجها «أورلى» والذى كان جزءًا من إحساسها بالاضطراب خاصة بعد انتحاره كما انتحر حبيبها الموسيقى الإيطالى «لوينجى»، رجال كثيرون ونهايات متكررة فاشلة جعلت من حياتها أكثر مأساوية خاصة بعدما ضحت بحلم الأمومة بعد أن أجهضت نفسها فى حمل من علاقة بشاب يصغرها بضعف عمرها 18 عاما وكانت فى السادسة والثلاثين.

1- قوة لم تظهرها المخرجة بالشكل المناسب

فعلى الرغم من أن الحمل والأمومة كان حلمها الذى ترقبته مع كل علاقة جديدة لكنها أصرت على أن تتخلص من حملها لرغبتها فى أن تكون أسرة حقيقية وأن يكون لطفلها أب ناضج وألا تدمر حياة حبيبها الصغير سنا والذى لا يزال فى مرحلة الدراسة.

خيار صعب يؤكد قوة كامنة فى داليدا كما الضعف الذى مرت به، وهو الذى أبرزته وركزت عليه المخرجة ومؤلفة الفيلم ذات الأصول المغربية ليزا أزويلوس، والتى لعبت على الحزن والكآبة فى حياتها أكثر من قوتها ونضوجها وإصرارها على المعافرة بالرغم من كل ما أحاطها من مآس، وهو ما لم يظهر فى الفيلم الفرنسى الذى عرض فى مصر مؤخرا بعنوان «داليدا» ولعبت دورها الممثلة سيفيفيا أليفيتى التى حاولت بقدر الإمكان أن تصل لروح وقلب الشخصية وملامحها الشكلية التى كانت تميز داليدا عن باقى نجمات جيل الزمن الذهبى فى هذا الوقت فى الخمسينيات والستينيات وحتى وفاتها عام 1986 فكان جمالها مختلفًا، فهى مزيج لجمال شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط بأصولها الإيطالية ونشأتها فى مصر ومعيشتها فى باريس.

ركزت المخرجة فى العمل على إحباطات داليدا وهوسها بالموت والذى كان شغلها الشاغل حتى فى أوج حياتها، فحتى وهى بين إحضان حبيبها لوينجى تانكى وهى تحدثه عن الحب وبأن المهم فى الحياة هو السير نحو الحب بينما الوجود البشرى يسير نحو الموت، ليحرمها الموت منه بعد أن ينتحر لتقرر هى الأخرى إنهاء حياتها لأول مرة بعد لقائه فى إيطاليا لكنها سرعان ما تتعافى مجددًا بعد أن تتلقى العلاج النفسى إلا أن صدماتها المتتالية لم تكن أقل فزعا ورهبة.

2- امرأة كئيبة.. ساحرة ولكن على المسرح فقط..

داليدا طوال الفيلم امرأة منهكة حزينة كئيبة، لا يخرجها من هذا الاضطراب والمخاوف والسعى نحو الموت، كما تقول، دائما بأنها تعتقد بأنها ستختار نهايتها فى يوم أحد، إلا حينما تتألق على المسرح وسط جمهورها ورغبتها فى إحدى الفترات الاعتزال والتفرغ للصفاء الروحى بعد زيارة خاطفة للهند، داليدا تعانى وتصارع وتعيش اضطرابًا وألمًا نفسيًا وهى على المسرح متألقة متجددة بصوت ساحر وحضور قوى بارز، وقد نجحت المخرجة فى توظيف أغنيات داليدا بما يتناسب مع الأحداث، فكانت الأغنيات هى البطل الرئيسى والأقوى فى العمل الذى بالرغم من كونه فيلمًا روائيًا إلا أنه لم يخرج من فخ الوثائقى الذى يعتمد على روايات الآخرين عن داليدا فى مشاهد جمعت شقيقها ومن دخلت معاهم فى علاقة عاطفية مع الطبيب النفسى الذى عالجها وبعض من مشاهد الفلاش باك التى تعيدها للطفولة فى مصر.

3- لعنة الموت والانتحار تبشر بالنهاية

داليدا كانت على علاقة حب قوية بوالدها إلا أن بعد اعتقاله يعود ليصبح شخصًا آخر يضربها وشقيقها، لكنها تمنت الموت بقوة وهو يضرب أمها ليموت وتصاب بالاضطراب الذى لازمها طوال مسيرتها وحياتها.. فكأن لعنة الانتحار من نصيبها سواء من أحبها وحتى كتبت نهايتها بنفسها وهى فى الخمسينيات من العمر، وبعد أن شعرت بالوحدة والبرودة العاطفية وهو ما جعلها تصاب بمرض البوليميا تخوفا من زيادة وزنها، فحتى الحفلات التى أقامتها فى أمريكا ونجحت خلالها فى أن تصبح أسطورة فى عالم المسرح والاستعراض بعد تدريب شاق لتغير من جلدها الغنائى الكلاسيكى لتصبح هى «المستقبل» كما كان يقول عنها شقيقها دائما.

4- يوسف شاهين أعاد إليها الأمل

عادت داليدا من جولتها فى أمريكا وهى تحمل انتصار النجمة.. ولكن داليدا الإنسانة سرعان ما عادت محبطة.. وحيدة.. بعد أن طردت حبيبها الأخير الذى أصبح عبئا نفسيا وجسديا عليها، فطالما عايرها بمرحلتها العمرية وتكتشف بأنها لن تتمكن من أن تصبح أماً مجددا.. ويموت هو الآخر وتصاب مجددا بنوبة اكتئاب لم تخرج منها إلا بعد أن علمت بترشيح يوسف شاهين لها لتقوم ببطولة فيلمه «اليوم السادس» والذى أعادها لمصر وشبرا وحلمها بالعودة لأرض الوطن..عادت لمصر وغنت ومثلت وتألقت مجددا مبهجة أمام الشاشة ومكسورة منهزمة بداخلها.

5- صراع الشهرة والأمومة.. ثلاثين عاما من الاضطراب

الفيلم إجمالاً ذكرنا بأسطورة استمرت لأكثر من ثلاثين عامًا من النجاحات المتتالية، ذكرنا بأن الإبداع دائما يصاحبه الاضطراب والصراع الدائم بين الشهرة والوصول إلى أقصى مراحل النجاح وبين رغبتها فى أن تصبح امرأة عادية كأغلب النساء تتزوج وتنجب وتحقق حلم الأمومة الدافئ، إلا أن الأمر لم يسلم من بعض التفاصيل البسيطة التى تغافلت عنها مخرجته مثل الماكياج، فخلال مراحل عمر داليدا ومن حولها لا تشعر بالتطور الزمنى والمراحل العمرية سوى بارتداء باروكة مثلا لتغيير الملامح التى تبدو لا تزال بنفس ملامحها بدون تغييرات واضحة، سوى قبل وفاتها بمشاهد قليلة بعد أن تملك الخراب من داخلها، أصابت المخرجة فى اختيار الشخصيات التى لعبت الأدوار بداية من داليدا وحتى الرجال الذى صادفتهم فى حياتها وشقيقها الذى لازمها فى مشوارها وزوجته، فحاولت اختيار الممثلين الأقرب شكلا وروحا لهذه الشخصيات وجاءت نهاية الفيلم تحمل بعض المراهقة إلا أنه خيار المخرجة حينما قررت أن تصعد روح داليدا لتلامس اسمها اللامع بعد إقبالها على الانتحار لتقول بأنها حفرت اسمها بين النجوم وصنعت أسطورتها، وهو ما لم يكن بحاجة لمشهد بدا أكثر مراهقة وعاطفيا لنهاية مأساوية لنجمة ستظل أسطورة مهما مضت عقود وسنوات، وستظل أغنياتها محفورة فى تاريخ الغناء، فأغانيها تجاوزت الحدود التى عاشت بها داليدا بنت شبرا القوية المهزومة الشجاعة حتى فى أصعب خياراتها.. الإجهاض والانتحار.