ربيع جودة يكتب: دموع إنسان آلي

ركن القراء

ربيع جودة
ربيع جودة


رجل يعمل سائقاً علي باص..  أركب معه كل يوم ذاهباً الي عملي.. دائماً أراه شارد الفكر..  كثير الصمت..يبدوا عليه الإجهاد الشديد.. ومن كثرة سكونه ظننت أنه لا يستطيع النطق..  وحين أنظر الي هيئته بشعره الكثيف..  ولحيته البارزة وثيابه الرث أشعر وكأنه لا يزال في فراشه.. يضع علي تابلوه السيارة صورة امرأة كنت أحاول طوال الوقت أن أسأله عنها..  ولكن صمته الدائم يضع حائطاً حوله.. فتراه ولا تكاد تراه..  وذات يوم وهو يقود الباص..  وأنا أراقب صمته كالعادة..  وجدته يقاوم البكاء حتي غلبه..  وانهمرت منه الدموع دون صوت..  وما أصعب البكاء بغير صوت..  دموع يتلوها دموع..  حتي رفع جفنيه من زجاج السيارة الي السماء..  في نظرة عتاب سرعان ما حملها الرضا ليعيدها الي قلبه المحترق..  ليُسكن أوجاعه ويداوي جرحه..  مسح دموعه بحذر أن يراه أحد.. وامتلأ جوفه بتنهيدة بلغت أعماقه وأعادته الي صوابه.. 
لم أجد في نفسي صبراً أن أسأل هذا الرجل الآلي..  الذي لا يزيد عن كونه جزء من أجزاء السيارة.. عن سبب بكاءه وجزعه..  فقلت دون مقدمة..  ما بك يا رجل..  قال سلامتك يا أستاذ..  قلت مالك تبكي..  فسكت قليلاً..  حينها أدركت أن الرجل بصمته الدائم ربما كان يبحث عن طريقة ليحكي بها..  فلم أستغرق وقتاً في الإلحاح عليه ان يتكلم..  وكأنه أدرك الآن الفرصة التي يُخرج فيها بعضاً مما في جوفه.. 
فقال في حسرة..  لم تكن فقط زوجتي..  بل كانت العون والسند..  صديقة اذا ما اشتد أمري.. وعشيقة إذا ما طاب ليلي.. لم تقتسم يوماً همي..  بل كانت تحمله كله عني..  فلا أكاد أشعر بالأيام تمضي..  وأولادي الثلاثة ..  يكبرون يوماً بعد يوم..  وتنتقل بهم من عام الي عام كما العصفور ينتقل من غصن الي غصن اكبر...  لا أشعر بهم وهي كالجبل الراسخ لا يعتريها تعب ولا نَصَب. . حتي رزقت منها بطفلة أخيرة..  وبعد ولادتها أصاب زوجتي المرض..  تلك الشجرة الوارفة.. التي تظلنا بحنانها وعطفها.. صارعها المرض طويلاً..  لتسقط ورقاتها واحدة تلو الأخرى..  وأنا أحملها بين يدي من طبيب الي طبيب ومن مستشفى الي أخرى..  لم أيأس أبداً من شفاءها..  لكن إرادة الله كانت أولي أن تتحقق..  وفي المرة الأخيرة..  حملتها بين ذراعي هاتين..  ووضعتها بين يدي آخر طبيب.. والذي أعفي نفسه من الكلام بنظرة حاسرة تقول.. لا تحاول..  فأمسكت بكتفيه لا تقل هذا بالله عليك ..  ابحث في رأسك عن علم..  ابحث في كتبك عن علاج..  خذ من جسدي ما تحتاجه هي..  تحركت يد زوجتي لتمسك بيدي..  فنظرت إليها وقد احتبست أنفاسي من البكاء..  وهي تضغط على يدي برفق دون كلام..  فلم يبق لي منها سوي تلك النظرة الطويلة التي قالت لي فيها.. سأنتظرك  يا رفيق العمر.. بعدها انطفأ نور عينيها..  ومنذ تلك اللحظة..  وأنا اقوم بدورها الثقيل..  أرعي الأولاد وأغسل الملابس..  واحضر الطعام..  وأوقظ النائم..  وأداوي المريض..  وأغسل الأواني وأرتب الغرف..  وأكنس الدار..  وأتذكر مواعيد الدروس.  واغلق النوافذ وأرفع القمامة.. واذهب الي السوق. واختار ملابسهم .. وأراجع دروسهم . وانام بعدهم واصحو قبلهم..  وغير ذلك كثير 
أنا الرجل الذي كنت أري في نفسي التعب والمشقة.. حين أعود الي البيت.. فلا أقبل مناقشة من أحد..  ولا أسمح بخطأ..  وتقوم الدنيا إذا تأخر طعامي..  واطلب الشاي وأنا مستلقي علي وسادتي..  لم أكن أعرف أنها متعبة الي هذا الحد.. لم أكن أعلم  أنها كانت أولي بالراحة مني.. بعد عناء اليوم..  ثم أجهش الرجل بالبكاء وهو يقول..  أريد أن أراها مرة ليس لأني تعبت من أداء دورها القاسي ..  ولكن لأخبرها كم كانت عظيمة..  أريدها ان تعرف أني مت يوم أن ماتت..  واني صرت مجرد انسان آلي غير أنه يستطيع البكاء 
. لم أحاول الرد عليه..  ولم يكن ينتظر ردي ولكني أدركت وقتها  أن الأسرة إذا فقدت الأب تستمر وربما تقوي..  أما حين تفقد الأم فإنها تصبح كسفينة بلا شراع في بحر يغشاه موج من فوقه موج...  فتحية من الأعماق لأمهاتنا أحياءا كانوا أو أمواتا