النهضة الترامية.. قصة ظهور "عفريت القاهرة"

منوعات

الترام - أرشيفية
الترام - أرشيفية


اليوم سنسرد لكم صفحات من جرائد ومجلات أفاضت في وصف أحوال مصر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تلك الأيام التي شهدت بداية تسيير "الترامواي" في القاهرة وزيادة أعداد السيارات، أيضًا في مواجهة وسائل النقل البطيء "عربات الكارو - وسوارس - والحمير الخصوصي والإيجار والكارتات... إلخ"، وقد سجلت جرائد هذا الزمان الحدث العجيب وهو تأثير "عفريت القاهرة" الذي قلب حياة المصريين رأسًا علي عقب ومن ضمن من سجل هذا الإنقلاب علي محمد سيد كيلاني في كتابه "ترام القاهرة"، حيث جاء به ما نصه: (لما ركب حسين فخري باشا ناظر الأشغال "أي وزير الأشغال" ومعه عدد من كبار موظفي النظارة قطارا يسير علي قضبان وبقوة الكهرباء في أول رحلة له من بولاق إلي ميدان العتبة ثم القلعة إصطفت جماهير القاهريين علي الجانبين بالألوف لكي يشهدوا هذه المركبة الغريبة الشكل والأولاد الصغار يركضون وراءها وهم يصرخون "العفريت".. "العفريت")!. 

وتناول حسن توفيق الدجوي - في كتابه الصادر في عام 7981 - باسم "الرسالة العلمية في الترامواي الكهربائية" تأثير وجود الترامواي في القاهرة قائلا"»ذلك المشروع الجليل يزيل عن اعتقادات الأمة جانبا عظيما من الضلالة، وتظهر لهم حقيقة العلوم والمعارف - فطالما سمعنا من اكثر الناس أن الطبيعة اسم لايراد به إلي معناه مذهب "الناتوور اليست" أي الذين لايعتقدون في الإله - ووجوده - فنزع ذلك ثقتهم في المدارس فأضاعوا مستقبل أبنائهم الذين كان ينتظر منهم خدمة الأوطان بما يكسبون من العلوم الضرورية لتلك الأزمان.


النهضة الترامية:

كما كتبت جريدة "المؤيد" في عددها الصادر 6 سبتمبر عام 8981 معلنة سقوط دولة الدراويش وبداية الحرب العلمية الصناعية وحرب الجهلة وذلك كله بمناسبة وصول الترامواي إلي القاهرة.

وأحدث هذا الوافد الجديد نهضة من الممكن أن تسمي "نهضة ترامية"، فقد ترتب علي سهولة انتقال سكان العاصمة بواسطته إنتشار الجمعيات الأدبية والدينية والعلمية ففي عام 8981 تأسست "الجمعية الطبية المصرية«، والجمعية الزراعية" وجمعية مكارم الأخلاق الاسلامية، وانتشرت المدارس وفي نفس هذا العام أي بعد مرور عامين علي سير الترامواي تقدم 12 طالبا لكلية الطب - بينما كان مجموع الطلبة الذين إلتحقوا بها في الفترة من2981 - 7981 أحد عشر طالبا فقط وكان طلبة المهندسخانة 61 طالبا عام 7981 فبلغ عددهم 05 طالبا عام 0091 وتأثر الأزهر الشريف أيضا بهذا الحدث حيث أدخل من ضمن مواده الدراسية بعض المواد العلمية مثل الرياضيات والجغرافيا عام 8981 - هذا إلي جانب إزدهار المجلات والكتب ومنها كتاب قاسم أمين - الشهير عن تحرير المرأة. وتناقش الناس في أسرار الكهرباء... واستعمالاتها... إلخ.


عمران وثقافة وازدهار ورواج:

ومن جانبه، ساعد الترامواي علي نمو العمران وازدهار الثقافة ورواج التجارة والاضرابات المختلفة ومنها اضراب عمال السجائر.

وكتبت بعض الجرائد مثل جريدة "الأخيار" في عددها الصادر 52 مارس 8981 - مشيرة إلي الشرور والأضرار الناجمة عن سير الترامواي في شوارع العاصمة والذي ترتب عليه جعل النساء تخرج دون إذن أزواجهن وانتشار الفسق والدعارة والفجور وشرب الخمور واللهو، حيث كتب الشاعر إلياس ضبكات تحت عنوان "الترامواي الكهربائي" يقول:
إن الترامواي علي القاهرة
مصيبة ياقومنا.. قاهرة
فكم قلوب هالها.. رهبة
وكم أيد به قطعت
وأرجل أضحت طائرة..


لائحة التياترات:

وتكتب جريدة "المؤيد" أيضا في 82 نوفمبر 7981- عن إنتشار صالات الغناء والفنانين وبدايات شغب الملاعب وزيادة المسارح وكتابة المسرحيات وظهور النقد الفني لها كما نشطت الحركة الوطنية وانتشرت أغاني سيد درويش، مما أدي إلي صدور "لائحة التياترات" في 91 يوليو عام 1191 لتخضع المسارح تحت سيطرة الشرطة كنتيجة لزيادة حركة الناس التي سهلها الترامواي.

وسلطت كثير من الجرائد الضوء علي ما يسمي بـ"النهضة الترامية"، التي حدثت في المجتمع المصري حيث زادت الإضاءة بالكهرباء - وعم العمران ونشأ حي "مصر الجديدة" عام 5091 - ثم حي المعادي عام 6091 - وأقيمت كثير من المصانع وارتفع سعر المتر في الأزبكية من جنيه واحد حتي بلغ 06 جنيها - وفي الموسكي إلي 09 جنيها، كما ساهم الترامواي في تكوين الرأي العام، ففي عيد الجلوس السلطاني في 12 أغسطس 7981 - إجتمعت الأمة للسهر والإحتفال.. وتقرر تشغيل الترام لمركباته حتي الثالثة صباحا.


ترام يسير بالخيول:

وإذا ما انتقلنا إلي بورسعيد نجد أنه كان يسير في شوارعها ترام ولكن تجره الخيول وذلك في مطلع عام 0091.

وكانت شوارع القاهرة في تلك الأيام غير مزدحمة الأمر الذي كان يسمح بمد مزيد من خطوط الترامواي إلي جميع جهات القاهرة.. وبالفعل توالي مد الخطوط إلي جهات روض الفرج وشارع الأهرام والأزهر وخلافه وساهمت السيارات في زيادة ربط أنحاء القاهرة بعضها ببعض، فزادت إنتقالات القاهريين من مكان إلي مكان وتحدت تلك الوسائل الميكانيكية الحديثة التي تسير بالكهرباء، أو بالبنزين - الوسائل الحيوانية "عربات الكارو - عربات سوارس - الحنطور - الحمير الخصوصي.. الخ"، مما إنعكس أثر ذلك سلبا وايجابا علي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية علي المصريين في جميع الاتجاهات وفتحت أمامهم مجالات كثيرة لم تكن معروفة من قبل.

عربات الترام صناعة مصرية:

وسجلت جريدة "السياسة الأسبوعية" وجود عربات الترام الفاخرة التي تسير بين الاسكندرية وسان إستيفانو - وتمر يوميا بدار الحكومة ببولكلي، وفي عدد الجريدة الصادر في 8 اكتوبر عام 7291 - أكد محرر الجريدة أنه قد تحدث مع معالي خشبة باشا وزير المواصلات - حول تلك العربات الفاخرة للترام، فأفاد الوزير أن تلك العربات تأتي مستوردة من انجلترا وبلجيكا وفرنسا - ولكن المحرر أوضح للسيد الوزير أن تلك العربات الفاخرة تصنع بأيد مصرية في مصنع المسيو لبرمان لحساب شركة ترام الرمل فإندهش الوزير وقرر القيام بزيارة ذلك المصنع يرافقه شاكر بك وكيل وزارة المواصلات - حيث تشرف هذا المصنع الصغير الكائن بجهة سيدي جابر بهذه الزيارة الوزارية وأمام الوزير تم تسيير عربة ترام من طراز عام 3291 - وأخري من طراز 6291 والتي كانت تعرضها شركة الرمل للترام في معرض الجزيرة الصناعي والتي يبلغ طولها 31 مترا وعرضها 23.2 متر وبها 21 مقعدا، صنعت كلها بأيدي عمال المصنع المصريين والذين يبلغ عددهم 57 عاملا مصريا، وقرر أحد المهندسين الخبراء بالمصنع، أن عربات الترام التي ينتجها هذا المصنع تفوق في جودتها، العربات الواردة من أوربا، وأقل سعرا واكثر متانة وإتقانا - وقد أثني خشبة باشا علي العمل بالمصنع - وبجهود صاحبه مسيو لبرمان الذي يعمل في سيدي جابر منذ عام 8191 - وأنه أخرج تباعا اكثر من 56 عربة ترام - والذي ابدي استعداده لمعالي الوزير، لصنع عربات السكك الحديدية وإنشاء صناعة مصرية متكاملة في هذا المجال.


ترامواي - مترو - ترولي باس:

وكان الترامواي منذ تسييره في شوارع مصر قاتلا يوميا للعديد من المصريين الذين يسقطون تحت عجلاته وكانت الصحف تنشر تباعا أحصائيات لأعداد قتلي ومصابي الترام يوميا وشهريا ومع ذلك إزدادت علي مر الأيام عربات الترامواي وزاد إقبال الجمهور علي ركوبه وكانت تذكرة الركوب تصل إلي 7 مليمات وكثيرا ما كان البعض يركب الترام خلسة من الكمساري من علي الشمال علي سبيل التزويغ من دفع الأجرة كما كان للسيدات مكان مخصص لهن في عربات الترام.

وسرعان ما تطورت عربات الترام وظهر »المترو« الذي تم تخصيصه لخدمة سكان مصر الجديدة وهو اكثر سرعة وجودة وأناقة من الترامواي العادي الذي يسير في أحياء القاهرة كذلك أستبدلت الفرامل اليدوية للترامواي بالفرامل الهوائية.

وفي ستينيات القرن الماضي أستبدلت عربات الترام بعربات تشبه سيارات النقل العام أطلق عليه اسم "الترولي باس" الذي كان بصنجه مزدوجة تتصل بالأسلاك الكهربائية - ولها عجلات من الكاوتش- ولايسير هذا الترولي علي قضبان ثم إقتضت ظروف تزايد زحام شوارع القاهرة. إلي إلغاء تسيير كثير من خطوط الترامواي والترولي باس والإبقاء علي مترو مصر الجديدة.


مترو الانفاق:

وبمرور الزمن اختفت تدريجيا عربات الكارو - وإتجهت عربات الحنطور للعمل في الريف وقل وجودها في شوارع القاهرة واقتصر وجود الحنطور في القاهرة لاستعماله لنزهة السياح الأجانب ثم ظهر عملاق كبير تم إنشاؤه في مصر وهو "مترو الأنفاق" الذي تميز بسرعته وبإستيعابه أعدادا هائلة من الجماهير يتم نقلهم في دقائق إلي أعمالهم فتكونت بالتالي ما يسمي بنهضة مترو الأنفاق مثلما أحدث الترامواي "نهضة ترامية" عند ظهوره بمصر لأول مرة.